بين القضاء الدستوري والقضاء السياسي

بين القضاء الدستوري والقضاء السياسي

لا شك أن الرقابة على دستورية القوانين تُعَدّ من الركائز الأساسية للدولة القانونية التي تخضع جميع سلطاتها لأحكام القانون، دون أن تسمو أيٌّ منها عليه، في ظل دستور يحدد هذه السلطات وينظم اختصاصاتها، ويكفل في الوقت ذاته الحقوق والحريات العامة.
وبما أن غالبية الدساتير قد أخذت بمبدأ الرقابة القضائية على دستورية القوانين، فقد ثار خلاف حول وصف هذا القضاء؛ إذ يرى اتجاه أنه يمثل قضاءً سياسياً تحيط به اعتبارات خاصة، لاسيما وأنه قد يتولى في بعض الحالات محاكمة كبار المسؤولين في الدولة، في حين يذهب اتجاه آخر إلى أنه قضاء دستوري خالص، قوامه حماية سمو الدستور وضمان احترام أحكامه، وإن مارس بعض الاختصاصات ذات الطابع السياسي.
وبناءً على ما تقدم، يرى الاتجاه التقليدي أن القضاء المختص بالرقابة على دستورية القوانين، والساهر على التطبيق السليم لأحكام الدستور، يُعَدّ ضرباً من القضاء السياسي، لكون اختصاصه يمتد كذلك إلى محاكمة السلطات العليا في الدولة عمّا قد ترتكبه من جرائم ذات طابع سياسي. ويؤكد هذا الاتجاه أن العديد من الدساتير العربية -النافذة آنذاك-، قد أولت عناية خاصة بهذا النوع من القضاء، نظراً لما يحيط به من اعتبارات استثنائية لا مثيل لها في القضاء العادي.
غير أن الاتجاهات الحديثة تميز بين المفهومين، على الرغم مما قد يبدو من تشابه بينهما، إذ يرى أن بعض اختصاصات القضاء السياسي قد تُسند إلى القضاء الدستوري متى أجاز المشرّع الدستوري ذلك. ويرى أنصار هذا الاتجاه أن القضاء السياسي ينحصر في اتهام السلطة التنفيذية أو محاسبتها، ومع أنه يحمل اسم القضاء، فإن الجهة التي تباشره غالباً ما تكون هيئة سياسية وليست قضائية، في حين أن القضاء الدستوري هو الذي يتولى صون القواعد الدستورية وضمان احترامها.
ونحن نرى أن مصطلح القضاء السياسي بالمعنى الفني لم يعد قائماً في الدساتير الحديثة، التي اتجهت إلى إسناد الرقابة على دستورية القوانين، وكذلك محاكمة بعض كبار المسؤولين، إلى هيئات توصف صراحة بأنها قضائية ويغلب على تشكيلها الطابع القضائي.
ولا يُغيِّر من وصف هذه الهيئات كون تحريك المسؤولية بحق شاغلي المناصب العليا يتم في بدايته من قِبَل هيئات ذات طبيعة سياسية، فهذه الأخيرة لا تتعدى وظيفتها تحريك الدعوى، ويمكن أن تمارسها في نطاق الدعاوى الجزائية أو المدنية أيضاً، أمام القضاء المختص، فيبقى الوصف معقوداً على طبيعة الجهة التي تنظر في الاتهام.
كما أن طبيعة الفعل المنسوب إلى المتهم، سواء أكان جريمة عادية أم جريمة سياسية، لا تُغيِّر من جوهر هذا القضاء، ما دام المرجع النهائي في الفصل فيها جهة قضائية منصوص على تشكيلها في الدستور، وتمارس اختصاصاتها في إطار نصوصه.
وخلاصة القول: إن القضاء الذي يتولى الرقابة على دستورية القوانين هو قضاء دستوري هدفه الأسمى حماية سمو الدستور وصون الحقوق والحريات العامة، وإن منح بعض الاختصاصات المتعلقة بمحاكمة كبار المسؤولين لا ينزع عنه طابعه الدستوري ولا يبرر وصفه بالقضاء السياسي.