المشكلة بين السياسي والاجتماعي تتعقد أكثر حين لا يقر كل طرف إلا بالحقوق التي تعنيه، فمقابل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، يحفل دستور العام 2014 بالفصول التي تبين دور الدولة ومهامها وواجباتها.
تضمن الفصول العشرة من 36 إلى 45 في الدستور التونسي الجديد الذي تم سنه في يناير 2014 الحقوق الاقتصادية والاجتماعية المكفولة للتونسيين. وكان بعضها محل تجاذب كبير قبل المصادقة عليه مثل الفصل 36 الذي يضمن حق الإضراب، والفصل 37 الذي يضمن حق الاجتماع والتظاهر السلميين، بينما يضمن الفصل 40 حق العمل اللائق للجميع وبأجر عادل. كما يلزم هذا الفصل الدولة باتخاذ التدابير اللازمة لضمان العمل لطالبيه حسب الكفاءة والإنصاف.
لا ننسى أن الدستور التونسي دستور توافقي وتمت المصادقة عليه بأغلبية كاسحة. وهو ما يعزز كل فصوله ويجعل لها شرعية غالبة لا جدال حولها ولا تردد بشأنها. ولكن المرور من الفصول النظرية إلى الواقع يكشف ما تتضمنه هذه الفصول من عسر في التجسيد، إذ يعلن الجميع عن احترام الحقوق المضمنة في الدستور، ولكن كثيرا ما يصطدم السياسي بالنقابي ويمتنع التواصل بينهما وتضيع بينهما مصالح كثيرة للتونسيين.
يتجلى هذا الاصطدام المعطل في قطاعات مهيكلة كالتعليم والقضاء والنقل، حيث ينشط الفصل 36 الذي يكفل حق الإضراب. ويتجلى في قطاع المنشآت الكبرى كشركة الفسفاط بالحوض المنجمي، والمجمعات الكيمياوية بقابس والصخيرة، والمنشآت النفطية بتطاوين، ومنشآت الغاز بقرقنة حيث يقع توظيف الفصل 37 في الاحتجاجات المطالبة بالحق في العمل الذي يضمنه الفصل 40. وتضيع المصالح الوطنية بين الحقوق الدستورية.
المشكلة بين السياسي والاجتماعي تتعقد أكثر حين لا يقر كل طرف إلا بالحقوق التي تعنيه، فمقابل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، يحفل دستور العام 2014 بالفصول التي تبين دور الدولة ومهامها وواجباتها لا سيما في الباب الأول والرابع والخامس في العشرات من الفصول. فللدولة حقوقها أيضا، ولكن بفعل التجاذب والتصادم بين الحقوق تصبح المطالبة بهذه الحقوق وإقرارها وتنفيذها خاضعة لموازين القوى بين الدولة والأطراف الاجتماعية المحتجة.
وهنا يغيب المرجع الضابط لحدود كل طرف. فالمحتجون يبنون تأويلات كثيرة للفصول المتعلقة بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية في الدستور تصبح بمقتضاه كل المطالب مشروعة، ويجرّون الدولة وممثليها غالبا إلى الإقرار بهذه التأويلات لتلك الفصول الاجتماعية. بينما تقف الدولة وأجهزتها غالبا فاغرة فاها أمام الوضعيات الاحتجاجية التي تكون في أحيان كثيرة كاسحة ولا تحسن التعامل معها طبقا للفصول التي كفلها لها الدستور.
ولا يقف الصراع بين السياسي والاجتماعي في تونس على الواجهة العلنية المكشوفة، بل كثيرا ما يتخذ أشكالا خفية أو مواربة. فالدولة تحاول توظيف الإدارة لاستخلاص حقها من تعطل العمل بسبب ممارسة الحق الدستوري في الإضراب والاحتجاج، والنقابات تتحرك خيوطها القطاعية لتعطل سعي الإدارة. وهنا تتعالى أصوات التوعد والتهديد من جهة، تقابلها أصوات التحذير والاستعداد للترفيع في منسوب الاحتجاج والإضراب.
ويعود الأمر باستمرار إلى نقطة الانطلاق التي سمتها الانسداد ويستمر الدوران في حلقة مفرغة من الصراع والصدام بين السياسي والاجتماعي، بما يقود المجتمع التونسي ودولته بكل ثبات نحو الخراب. فالدستور الجديد الذي تتباهى به الأحزاب السياسية ويتكلم الجميع باسمه متكئين عليه حاكمين ومحكومين ومعارضة يمثل أيضا جملة من المشاكل التي لا تجد آفاقا لحلها.
يعود الأمر باستمرار إلى نقطة الانطلاق التي سمتها الانسداد ويستمر الدوران في حلقة مفرغة من الصراع والصدام بين السياسي والاجتماعي، بما يقود المجتمع التونسي ودولته بكل ثبات نحو الخراب
فالدستور نص خام لا تفصيل فيه. ويفترض أن تأتي القوانين لتحوله إلى صيغ إجرائية قابلة للتنفيذ. ولكن تصطدم هذه الخطوة بالتجاذبات السياسية والحسابات الحزبية وتخضع للولاءات والتحالفات الظرفية والدائمة والمتحولة. وكثيرا ما لا تهتم الأحزاب -لا سيما الممثلة منها في البرلمان وذات الأغلبية منها- بخطورة ما تقدم عليه من تراخ في أداء دورها التشريعي الكفيل بسن حزمة القوانين المناسبة والمنسجمة مع روح الدستور.
بل الأخطر من ذلك أن تعمل الكتل النيابية ذات الأغلبية في مجلس نواب الشعب على تقديم مبادرات تشريعية مخالفة لروح الدستور، أو تصر على قوانين خلافية لا إجماع حولها ولن تخفف من وطأة التصادم بين السياسي والاجتماعي، أو تترك التشريعات اللازمة والتي تتطلبها اللحظة وتكرس جهودها نحو مبادرات أخرى مثل قانون المصالحة الاقتصادية والمالية لكتلة نداء تونس، أو ما يعرف بقانون العفو دون مساءلة ولا محاسبة، أو قانون التوبة الذي لوحت به كتلة حركة النهضة والمتعلق بالمقاتلين في أراض أجنبية من التونسيين أو المقترفين لأعمال إرهابية.
لهذا الصدام بين السياسي والاجتماعي في تونس مفارقات أيضا، فالمحتجون من القطاعات المهيكلة ينضوون تحت لواء نقابات مهنية قطاعية تنتمي إلى الاتحاد العام التونسي للشغل المنظمة التي استهدفها اتفاق قرطاج الذي هندسه رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي. فقد كان على وعي تام بأن الأمور لا يمكن أن تستمر في ظل التجاذب القاصم بين السياسي والاجتماعي.
وكان الرئيس السبسي يأمل في أن يقبل الاتحاد الانضمام إلى حكومة جديدة سماها حكومة وحدة وطنية. ولكن أمل السبسي اصطدم بأمرين؛ الأول أن الاتحاد صاحب رؤية اجتماعية واقتصادية مخالفة لرؤية الائتلاف الندائي النهضوي الحاكم. فالاتحاد ينظر لاقتصاد تضامني اجتماعي تعاوني بينما الحزبان الأغلبيان من دعاة الخوصصة والتخفف من القطاع العام. والأمر الثاني أن المسألة القطاعية صلب الاتحاد قوية، فالقيادات النقابية منتخبة ولها رؤاها ومؤسسات قرارها وليس لها خضوع آلي للمركزية النقابية.
وكانت المركزية النقابية تعي ذلك جيدا وتعرف أنها حتى لو تنازلت وفكرت في الانضمام إلى حكومة ذات توجهات ليبرالية، فإن ذلك لن يضمن ولاء النقابات والقطاعات لخيارات هذه الحكومة. وهو ما كان سيخلق أزمة قد تودي بالمنظمة الأكبر في تونس. وكان القرار الذي اتخذته المركزية النقابية سياسيا لا استراتيجيا بأن توقع على اتفاق قرطاج، دون أن تشارك في الحكم. وهذا ما قدرت أنه سيتيح لها هامشا أوسع من المناورة والتحرك عند الأزمات كما يحدث الآن في أزمة قطاع التعليم.
وما يزيد من وطأة التصادم بين السياسي والاجتماعي أمران؛ الأول هو ضعف الأحزاب السياسية وهشاشة تكوينها السياسي والتشريعي وعجزها عن النفاذ العميق صلب المجتمع مما يعطل دورها الاجتماعي في تأطير التحركات والاحتجاجات المطالبة بالحقوق التي يكفلها الدستور للمواطنين، والثاني ضعف الدولة وعجز الحكومة عن تنفيذ ما طالبه بها الفصل 40 من ضرورة توفير العمل اللائق والمنصف للجميع. والنتيجة هي استمرار النزيف الذي يأكل حاضر تونس ويعصف بمستقبلها.
نقلا عن العرب