في 23 من شهر آب عام 1921، دخل الملك فيصل الأول إلى بغداد، محمولًا على أكتاف مشروع بريطاني صريح، ومتوجًا على عرشٍ لم يُستفتَ عليه شعبه، بل رُسم في مكاتب لندن وخُط بأقلام دبلوماسية لا تعرف حرارة الشمس العراقية ولا غبار الجنوب .
نُصّب ملكًا على عراق حديث الولادة، ما زالت أطرافه ملتهبة من أثر ثورة العشرين، وما زال أهله يتلمّسون فكرة الدولة كما يتلمس الأعمى ملامح الضوء .
منذ ذلك اليوم وحتى صبيحة الرابع عشر من تموز 1958، ساد نظام ملكي امتد من فيصل الأول إلى حفيده فيصل الثاني .
وبينهما، تعاقبت حكومات شكلية تديرها نخبة ضيقة من العائلات البرجوازية المتحالفة مع الاحتلال البريطاني، فيما ظل الشعب خارج المعادلة، مرصودًا بالفقر والتهميش .
لم يكن عبد الرحمن النقيب، أول رئيس وزراء، أكثر من واجهة مطواعة لرغبة الإنكليز، ولم تختلف الحكومات التي تلته كثيرًا .
تصدّر المشهد نوري سعيد، رجل لندن الأبرز، وصاحب القرار غير المعلن، مهندس المعاهدات، ورجل السلطة الأول الذي حكم من خلف الستار وأدار العراق كما يُدار مكتب لا وطن .
لم تعرف البلاد في تلك الحقبة طعم العدالة الاجتماعية .
وبدلًا من تأسيس دولة للمواطنة، أُقيمت سلطة تُرضي الأقلية، وتقصي الأكثرية، وتهمل الريف، وتعلي من شأن بغداد على حساب سواها .
هجّر النظام الملكي مكونًا عراقيًا أصيلاً من أبناء الديانة اليهودية، عبر ضغوط وسياسات تركت أثرًا عميقًا في نسيج البلاد .
كما قُمع الآشوريون في مجزرة “سُمّيل” عام 1933، وهي واحدة من أبشع الجرائم ضد مكون مسيحي طالب بحقوقه، فكان الرد نارًا ورصاصًا .
أما الجنوب والوسط، فشهدا سلسلة من الانتفاضات، من عشائر وفلاحين ومحرومين، طالبت بالعدالة وواجهت آلة القمع بلا رحمة .
لم تكن النزعة القومية الطائفية وحدها سببًا في تعثر المشروع الملكي، بل كانت الطبقية الواضحة واحتكار الحكم في يد عائلات معروفة، تفرض أسماءها على الوزارات، وتتناوب على الكراسي كما لو كانت إرثًا لا يُمس .
بقي الكرد خارج الحظيرة، يُساومون على حقوقهم القومية حينًا، ويُقمعون حينًا آخر، دون أن تُطرح رؤية عادلة تُنصفهم كمكون رئيسي في جسد الوطن .
سقط النظام الملكي لا لأن الضباط قرروا قلب الصفحة فجر الرابع عشر من تموز، بل لأنه لم يعد يجد في العراق من يدافع عنه .
سقط لأنه حكم من فوق، لا من وسط الشعب .
لم تكن ثورة ١٤ تموز بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم مفاجئًة ، بل كان النتيجة الطبيعية لانفصال الدولة عن مجتمعها، ولعجز النظام عن فهم المتغيرات، وعن تلبية الحد الأدنى من المطالب الوطنية والإنسانية .
ربما سعى الملك فيصل الأول لإقامة دولة حديثة مستنداً إلى فئة ضيقة غريبة عن غالبية الشعب بمكوناته المتعددة لم تستطع تمثيل عمق التنوع المجتمعي في العراق .
ترك العراق في قبضة نخب لا تؤمن بالشعب، ولا ترى فيه إلا أداة طيعة، تُدار من العاصمة وتُراقب من السفارات .
تحول العرش إلى رمز للتماهي مع المستعمر، ولحكم لا يخرج من حدود القصور، ولا يسمع صوت الريف .
وهكذا، حين جاء السقوط، لم يهتز الشارع .ولم تُرفع الأيادي للدفاع عن النظام .
لقد انتهى العهد الملكي كما بدأ . غريبًا عن الناس، بلا جذور، بلا ذاكرة جامعة، وبلا وطن يجمع الجميع تحت ظله.