تكون ساحات الحراك الشعبي وانتفاضاته الارض الخصبة للخطاب الطائفي محركاً ومحرضاً أوسع للجماهير الشعبية ذي سطحية الثقافة، ليدفع الى تصفية حسابات بين الطوائف الدينية، بحيث حلَّ اهتمام تلك الجماهير بما يسمونه بالدفاع عن الدين أو الطائفة الدينية او المذهب، محل الاهتمام بالوطن وقضايا الجماهير متناسين الأهداف الأكثر إلحاحاً كمثل تحرير الأرض والانسان من امراض الظلم والجهل والعبودية والتخلف …، أو إسقاط الأنظمة الجائرة والدكتاتورية ان ادعت بالدين او غيره لتأسيس أنظمة أكثر عدالة بين المواطنين.
من أحد أهم تلك المظاهر هي المشكلة الطائفية التي تحيط بالوضع العراقي الراهن وايضا السورية وحتى البحرينية والبنانية وغيرها ومنها الاحوازية …، بحيث تكاد تتحول الصراعات الدينية الطائفية إلى غاية بحد ذاتها، والأخطر منها أن تنجر بعض الأوساط المثقفة للانخراط في أتون تلك الصراعات مستندة إلى ردود فعل أكثر منها إلى مواقف مبرَّرَة، لترتكب بردود أفعالها أخطاء مماثلة تصب في مصلحة القوى المعادية التي قامت بتأسيس نظام الطائفية السياسية مع الاسف.
لم تقف المخاوف عند هذا الحد، بل تعدَّتها لتصل إلى حدود اتهام الاخرين من طوائف ودول واحزاب واديان وشخصيات بالتواطؤ في نظرية المؤامرة معتادة جهلا..، واليأس من مشاركتهم في معركة تحرير الانسان والوطن من الجهل والعبودية وتعزيز الاستقلال تحت ذريعة أن الاخرين .. قد غرقوا في معركة ما يسمونه الدفاع عن المذهب، على حساب انتمائهم الوطني والقومي وحتى الانساني .. متناسين لا يوجد انتماء ديني او مذهبي الا اذا ارتفعت قيم مكارم الاخلاق والشعور الانساني، اي الشعور بالاخر واحترامه، فلا دين الا بذلك وما عدا ذلك فانها افكار شيطانية واوهام تامرية وهذا ما عانى منه العراق.
ولكي نكون واضحين في هذا الأمر، لم يكن أمامنا من سبيل إلاَّ تسمية هذه المشكلة باسمها على الرغم من قناعتنا أن الامتناع عن التسميات بشكل مباشر قد تعزِّز أواصر العلاقات الوطنية بين شتى مسميات الأطياف العراقية مثلا من كل الطوائف، ولأنه لا بُدَّ من تسمية القضايا بأسمائها الحقيقية، فلن نتحمل وزراً لأن هدفنا هو الإصلاح المبدئي وليس المساهمة في زيادة الاحتقان الطائفي والعنصري .
ومن أجل ذلك كله كانت مقدمتنا مدخلاً لإلقاء الضوء على ما يجري في العراق من تفتيت طائفي منذ بداية التامر الحاقد على العراق بانواعه دون استثناء مباشرة او غير مباشر مثلا بالوكالة كما تفعل الخمينية بفيلق القدس او توابعه الفرعية او الوهابية بالقاعدة وفروعها .
بداية نقول للخائفين من غياب دور للشيعة عن مهمة الوعي هذه: لا تخافوا أبداً مما ترونه من ضعف هذا الدور، في هذه المرحلة، لأن المبادئ والقيم العليا، كثوابت مبدئية، ستكون لها الغلبة على الظاهرة الطائفية السياسية كمتغير طارئ مفروض في ظروف زمانية ومكانية محددة، وعابرة، لان الثقافة الشيعية ومذهب اهل البيت وظاهرةالحسين عليه السلام وسيرة الائمة هي رسالة كماهي مرجعية النجف الاشرف عاصمة التشيع دون غيرها مترجمة للاسلام نفسه وهي الانسانية والوطنية بحد ذاتها، وهذا لا يبخس حق مذهب اهل التسنن الحقيقي كما اراه في الازهر الشريف عاصمة التسنن دون غيره وعلماء العراق الحقيقين .
وأما دليلنا الذي بثبت مصداقية رؤيتنا، فيستند إلى أنه لو كانت العصبية الطائفية الدينية هي المقياس الثابت في تحديد خيارات المجتمعات، لعمَّت الحروب الطائفية كل الدول المتعددة الطوائف من أقصى العالم إلى أقصاه، ولِما كتب للدول الدينية بمنهجها السياسي أن تنقرض أو أن تتهاوى تباعاً عبر التاريخ في الغرب والشرق.
ففي تاريخ الدول الدينية في الغرب المسيحي، وتاريخ الدول الدينية في الشرق الإسلامي أكثر الدروس عبرة وبرهاناً، وخاصة أن في انهيار دولة محاكم التفتيش في أوروبا درساً بليغاً بحيث تمَّ إسقاطها لصالح الدولة الانسانية دون متاجرة بالدين، هذا مع العلم أن حرية الاعتقاد الديني ظلَّت مستمرة في الغرب المسيحي وكل طائفة من الطوائف تمارس طقوسها الخاصة في العبادة من دون لوم لأي منها أو تقريع، وكذلك ينطبق الأمر على ما حصل بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية وما عرف فيها من جور وصل الى قتل الابناء بالشبهة ومؤامرة النساء ومثلها الدولة الصفوية بدمويتها فليست هذه تمثل الشيعة ولاتلك تمثل السنة، كنظام حكم سياسي باسم الإسلام، فبعد سقوطهما، تأسس في كل جزء من تقسيماتها القومية، أو في كل كيان سياسي انفصل عنها، أنظمة مدنية تحكم بتشريعات جديدة تستجيب لمصالح كل المواطنين، وعلى الرغم من الانتقادات الكثيرة التي يمكن توجيهها للدول القطرية في الوطن العربي وحتى بعض الاسلامية، التي رُسمت حدودها بناء على ضعف مناهجها السياسية ومصلحة الامة لتبقى ممزقة، ولكن نسجَّل لها أنها ساوت في الحقوق والواجبات بين كل الموطنين، وإذا حصلت ثغرات في مبدأي العدالة والمساواة بينهم، فإنما كانت أسبابها تعود للتقسيم الطبقي الاجتماعي، ولا علاقة لها بالتصنيف الديني أو المذهبي، فغالباً ما كانت الطبقات الميسورة من كل الطوائف تبني تحالفات لاستغلال جهد الطبقات الفقيرة من كل الطوائف أيضاً. لقد سادت هذه المعادلة في شتى أقطار الوطن العربي باستثناءات طفيفة، وضمنت الدولة حرية الحق بممارسة العبادة للجميع، وكانت تلك الحقوق مضمونة ومحمية من قبل السلطات الحاكمة.
إن الجامع المشترك بين التجربتين الشرقية والغربية، هو إحداث تشريعات عامة قائمة على مبدأي العدالة والمساواة بين الموطنين، من دون المساس بالخيارت الدينية الروحية، ولذلك لم تتأثر المعتقدات الدينية والسياسية لكل المواطنين، إذ ضمنت الدولة حرية الاعتقاد الديني.
ولأننا أولينا الاهتمام بما يجري في العراق في ظل المؤامرات، فإننا نعتبر أن تجربته في ظل الحكم الوطني، هي إحدى تلك التجارب الجديرة بالدراسة. ففي تلك المرحلة كانت القوانين المرعية الإجراء تمنع تأسيس أحزاب دينية سياسية من دون أن تحرم العراقيين من من حقهم بممارسة طقوسهم الدينية لا بل كانت تحترمها وتحميها، وهذا السبب حال دون نشأة تيارات دينية سياسية. لذا فإن ظاهرة الاتهامات المتبادلة بين بعض التيارات الطائفية العراقية، في هذا الظرف، او تلك التي كانت سابقا بين الدينية والقوميين او بينهم وبين العلمانيين، إنما تعود أسبابها إلى نظام المحاصصة الطائفية التي شرَّعها الدستور العراقي، وكان واضعوه يعلمون أنه الدستور الذي سيزرع الفرقة بين العراقيين، وسيجعل منه عاملاً دائماً في صناعة الحروب الطائفية أو حتى القومية مثلا بين الاكراد والعرب او بين العرب والتركمان ووو…. وإذا كنا نحمِّل روح المؤامرة وزر جريمة الاقتتال بين المتعصبين الطائفيين فإننا لا نعفي التيارات الدينية السياسية من المسؤولية لأنها لم تعي هذه الحقيقة وبالاخص المفكرين منهم والمنظرين، ليستبدل نظام الدولة المتوازن بنظام المحاصصة الطائفية، وضمَّنته في صلب الدستور، اعتقادا منهم بانه يحافظ على مصالح النخب الطائفية وكان هذا الاعتقاد كما اثبتت التجربة والحقائق وهميا بامتيازوبالتالي كبلوا نهضت البلاد وقيَّدوا أهدافهم وكبَّلوها بأغلال مصالح الطوائف الدينية فتعزز التخلف اكثر ما ترفد الحضارة في العراق.
لقد شارك التياران الأساسيان في ارتكاب الجريمة، وهما تيار ولاية الفقيه الخمينية، وتيار الخلافة الوهابية المتمثل في الحزب الإسلامي العراقي الاخواني. وتواطأ التياران وشاركا بإنشاء العملية السياسية بابهام وشعارات دون ادراك طبيعة العراقيين وبعيدا عن الانتماء الشيعي الحقيق والسني الواضح لانهما ادخلا في المذهبين التنظيرات السياسية المتناقضة مع عدالة الدين واخلاقه الانسانية المعروفة قرآنية ليخضع الدين لاجتهادات شخصية وافراد ادعو العلم كسيد قطب والخميني ومنتظري وعبد الوهاب. وإنما كانت أسباب تناحرهما في هذه المرحلة تعود إلى خلافاتهما حول تقسيم كعك العراق وليس الحقيقة الدينية المرتكز على اخوة الدين، ولذا فقد حظي كل منهما بدعم عربي أو إقليمي، دعماً له أعماقه الطائفية السياسية، خاصة أن لكل طرف عربي أو إقليمي مصالح في العراق يريد أن يحصل عليها ويحافظ عليها، وكل منهما يريد أن يبني تلك المصالح ويضمن استمرارها، وليس أكثر ضمانة لها من وجود قواعد سياسية عراقية تقوم على الانتماء الطائفي المتماثل مع الانتماء الطائفي للداعم الخارجي. ومن هنا تقاطعت مصالح الطائفيين السياسيين من العراقيين مع عمقهما العربي والإقليمي، بحيث يحمي كل منهما الآخر، ويضمن استمرار مصالحه، على حساب مصلحة العراقيين في ثقافة نزيف الدم والاغتيالات وقطع الرؤوس. فالعمق الخارجي يضمن حصة قواعده العراقية بالسلطة، والقواعد العراقية تبادله بحماية مصالحه السياسية والاقتصادية في العراق، وتحول الصراع على السلطة بين المكونين إلى صراع طائفي لا تخفى آثاره المدمرة على حياة العراقيين.
اما المكون الوطني الحقيق فهو اما مغيب او ذائب بالتيارين لا حول ولا قوة له، او متوزع هنا وهناك، واغلبهم من المثقفين واصحاب الشهادات ان كانت جامعية او حوزية، او تاريخ حقيقي غير مصطنع نضالي ضد الدكتاتورية، وهو المكون الوطني، الجامع بين العراقيين على شتى مكوناتهم العرقية والدينية والعلمية .
ولخطورة منهج الوحدة والوطنية على منهج نظام المحاصصة الطائفية، وقف بالضد منه كل المتضررين من استعادة وحدة العراق وحقيقة الدين والمذهب والقومية فيه، واستخدمت تلك الأوساط، خارجياً وداخلياً، سلاح المزيد من التفتيت الطائفي وتغذية الصراعات بينها، وكان من بينها، وأكثرها خطورة، سلاح خطير ولا يمت للواقع والدين وللتحليل النظري بصلة، وهو التفرقة بين سني او شيعي ضد العملية السياسية، وسني او شيعي ساكت عنها أو مدافع، مدعوما بقنوات طائفية كالصفا والكوثر وغيرهما المصروفة عليهما الملايين من قوت الشعوب المسكينة، ويكمن أخطر من التصنيفين السياسيين عندما يعيد البعض أسباب هذا التقسيم، عن حسن نية أو سوئها، إلى عوامل إيديولوجية، يخال للقارئ أو المتابع أن الموقف والوطنية والحضارة وتى الانسان نفسه شأن إيديولوجي ، بينما التواطؤ هو شأن إيديولوجي تأمري وهلما جرى من هذه المصطلحات التي ليس لها واقعية ولا تعريف بالقواميس ولكن باتت متداولة في السن السياسيين لتدل على الجهل ان حسنا الظن وان اسئنا الظن فانها تدل على تخطيط بالتجهيل لاطراف اقليمية ومنا الوهابية والخمينية والذي بات صراعهما مدمرا للعراق خاصة وللعالم العربي والاسلامي عامة ويشكل لبنة ارهاب دولية بالتدريج.
إن حقائق الأمور، وواقعيتها تدل على أن كثير من الاطروحات في العملية السياسية العراقية بالاخص وحاليا في سورية وربما مستقبلا في غيرها لا تعود إلى أسباب أيديولوجية دينية أو دينية مذهبية، وهناك عن سابق إصرار وتصميم، على نهب ثروات العراق وامتصاص دماء العراقيين وذبح العراقيين تحت شعار الله اكبر لتشويه الاسلام اعلاميا من الجهة الوهابية ومنجهية الخمينية تصفية الكوادر لتحقيق قاعدة الجهل الامة في الساحة الوطنية، فهما يسرقان كل العراقيين وتصفيتهم في ارهاب معلن من دون تمييز بين سني أو شيعي او عربي اوكردي او تركماني.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، ولأن الوطنية هي اسباب وطنية وذاتية وانتماء اخلاقي وايمان لان حب الوطن من الايمان كما ورد في الحديث الشريف، وهذا الايمان من ابسط البديهيات التربوية والعقائدية والاخلاقية، وجدت لها مناوئين ومعارضين ومتآمرين من العشائر نفسها. ويمكن للمتابع أن يعرف أين يأوي بعض رؤوساء العشائر ان كان في الجنوب ايمانا منهم بان الدين والمذهب لا يخطئ او الانبار حاليا لنفس السبب، ممن شكلوا العائق الأكبر في وجه الفهم الوطني للعملية السياسية والعدالة في البلد كنظام، أو ما يزالون يشكلون، ولو بنسبة اضعف وهي تتناقص هم ذاتهم بأسمائهم وأشخاصهم، أحد العوائق في وجه الوطنية واخلاق الدين وليس المصالح المشوه للمذهب والدين . إن إعادة السبب للعامل الإيديولوجي في تعريف من هو مع، أو من هو ضد، هو مسألة منافية للعلمية والموضوعية والعدالة واخلاق الدين عموما والاسلام خاصة، بل ما يمكن الاستناد إليه هي ظروف البيئة الجغرافية والشعبية والأمنية والسياسية، وبالتالي فعلى المثقفين والوطنيين اينما وجدوا والاسلاميين الحقييقن غير المؤدلجين اقليميا ان ينتبهوا الى عقم الاستدلال بالعامل الإيديولوجي كسبب يحول دون بروز الوعي الوطني وثقافة الوحدة والاخوة.
ان حرب السنوات الثمانية بين النظام الخميني والنظام الصدامي، ومن أهم مضامينها تؤكد أن المكون الشيعي في الجيش العراقي كان يشكل 70% على الأقل من مجموع الجيش العراقي، هذا أولاً. وأما ثانياً فإن كل المعارك العسكرية كانت تنطلق من المحافظات الجنوبية وكان العدوان الايراني موجه ضدها وخير دليل تدمير البصرة واحتلال الفاوةقتل الاف الشيعة على يد الجيش والحرس الايراني.
وان ما سُميَّ بـالانتفاضة الشعبانية، وان اخذت بعدا شيعيا بسبب الدعاية الاعلامية فقد امتدت الى مختلف القطاعات من اكراد وسنة في محافظات اخرى، وبالتالي فهي ليست خاصة لمذهب دون اخر أو قومية دون اخرى وان استخدمتها الوهابية لدعاياته كما هو في مدينة رفحة السعودية والدلال الذي حصل عليه المنتفظون هناك من رواتب بفتاوى وهابية بالتنسيق مع فتاوى الخمينية والزيارات المتكررة لهذه المدينة الي احتظنت المنتفظين كستراتيجية من الوهابية والخمينية لإسقاط النظام الصدامي وكان الموقف من هذين التيارين الوهابية والخمينية ليس له علاقة بالدين بل لموقف من تعزيز تدمير العراق ومنع نهضته، وهو معركة مضافة لمعارك تزيد من التفتت الوطني العراقي وتدمر العراق بقصد، لاستغلال هذه الانتفاضة الوطنية ضد الدكتاتورية الصدامية، وهذا ما يحصل الان في الانبار من ذبح العراقيين السنة بايدي وهابية قاعدية، وبالعكس مما يستند إليه بعض المتشائمين من المخلصين للوطنية العراقية ولمذهب التشيع والتسنن والاسلام الحقيقي عموما. كما على العكس مما يراهن عليه نظام الوهابية والخمينية الارهابيين، أو على ما يستند إليه التباعهما، وعلى العكس من مراهنات أعداء العراق عموما على استمرار مظاهر العداء بين المكونات الطائفية فيه، فإن الثوابت النظرية تدحض مراهناتهم وتنقضها.
هؤلاء كلهم، راهنوا منذ سقوط نظام الدكتاتورية في بغداد، وما يزالوا يراهنون الآن على أن العراقيين سيتغلب الشعور الديني أو المذهبي عندهم على شعورهم الوطني، متغافلين ان الوطنية والمذهب الحقيقي هما عجينة اخلاقية بعضهما لبعض، فهؤلاء المراهنين يبالغون بلا شك في مراهناتهم وأحلامهم، ونؤكد بدورنا أن أمنياتهم هي خيالية وبعيدة تماماً عن نتائج التحليل العلمي، فهم يجهلون تماماً تأثير الشعور الوطني والدين في توأمة نفسياً واجتماعياً، وهذا مبني على أن الفطرة الغيبية لن تبقى صامدة أمام وقائع المصالح المادية للبشر، إذ لا يمكن للإنسان المنتمي لدين أو لمذهب، وفي سبيل انتمائه، لا يمكنه أن يتحمل الجوع والمرض كحاجات مادية للجسد، والمذهب او الدين يرتكزان على العدالة في ذلك وما عداه ظلم، وأن يتحمل الإذلال وأن يُطعن بكرامته وإرادته الحرة، كحاجة نفسية للروح، لذلك ستُصاب أمنيات أولئك المراهنين بالإخفاق.
يراهن هؤلاء على أن النقيض بين الشعور بـنصرة الدين أو المذهب، وانه سيتغلَّب على الشعور بـنصرة الوطن، وهذا جهل بعينه، والعراق والان سورية تعاني منه، لانه ما انتمى أي إنسان على وجه الأرض إلى دين ما أو مذهب ديني ما إلاَّ ظناً منه أن الدين أو المذهب سيشكل طريقاً للسعادة في الدنيا أولاً، وفي الآخرة ثانياً، وهذه هي التجربة التاريخية للشعوب التي عاشت في ظل أنظمة الدول المدعي بالدين دون اخلاق الدين وعدالته، بحيث إن قراءة التاريخ أكَّدت أن المنتسبين لهذا الدين أو ذاك، لهذا المذهب أو ذاك، لم يستمروا بتأييدهم لحكوماتهم الدينية عندما لم تتحقق آمالهم وأحلامهم بنشر العدالة والمساواة، وبالقضاء على الجوع والمرض،اللذان هما منهج اقتصادي عادل للدين وبالاخص الاسلام وقوانيه كما في الخمس والزكات والصدقات والاستثمارت والتجارة ووو، والتاريخ بتجاربه يؤكد لنا ذلك والى الى اليوم دون استثناء، وهذا ما لمسته في رؤية العلماء والمراجع العظام، كالسيد الخوئي والسيد السيستاني والمراجع الاتقياء العظام وعلماء الازهر في الوقت المعاصر، من علمية لهذه الرؤية، بالعكس من الخميني او عبد الوهاب..
ان ردَّة عدد من رجال الكهنوت المسيحيين في أوروبا على سلطة الكنيسة إلاَّ برهاناً على ذلك، فضلا عن ثورة الامام الحسين عليهم السلام العظيمة حيث لم تكن ثورة على سلطة عادية بل على سلطة مدعية بالدين، وليس لها علاقة لا بشيعة ولا بسنة، وهكذا كل تاريخ الخلفاء الى يومنا هذا، وهذا ما يؤكده رجال الدين المنصفون العدول، مسيحا كانوا او مسلمين وحتى ربما يهود،كما قال احدهم وهي عبارة جميلة بعد أن رأوا ما تنزله السلطة المدعية بالدين كذبا وبهتانا وزورا من ظلم وبطش بين رعاياها، وما تراكمه من غنى وثراء في أوساط رجال الدين، حينئذٍ قال: (إن خليفة الحواريين قد وُكِّلَ بأن يقود غنم الرب إلى المراعي، لا أن يجزَّ صوفها). وبهذا تبرهن الواقعة التاريخية، أن الثورة في أوروبا بدأت على كنيسة روما لأسباب دنيوية.
ان قراءة تاريخ صراع الشيعة الإيرانيين ضد سلطة (الولي الفقيه) انطلقت من أسباب إصلاحية سياسية ومادية، وهي في السعودية كما في ايران وان اختلف المنهج سابقا حدثت المتغيرات ضد نفس المذهب، بسبب الظلم، حيث في ايران يحكم النظام باسم ولاية الفقيه ذي المذهب الشيعي، حدثت ثورة شعبية عارمة عظمى عام 1979. وكان الثوار من المنتمين للمذهب الجعفري، وليس من مكونات مذهبية أو دينية أخرى وعلى ملك يدعي انه زعيم للشيعة في المنطقة، وإن المحجور عليهم من قيادات المعارضة للنظام هم أيضاً من رجال الدين الشيعة، وتلك دلائل على أن نصرة المذهب الشيعي لم يكن المبدأ الذي استند إليه المعارضون، بل كانت مصالح الناس المرسلة هي العامل الذي دفع معارضة تنتمي لمذهب الحاكم السياسي، ومثلها في السعودي في حركة عبد الوهاب وتحالفات ال سعود ضد ال الرشيد وغيرهم والحكم العثماني والشريف حسين، وهذه الواقعة تؤكد أن مبدأنصرة المذهب وختى الدين عموما، ليس ثابتاً بل هو متغير. وهو عقيدة نظرية عبثية يُراد من نشرها وتعميق مفهومها خدمة مصالح النخب السياسية والاقتصادية من رجال الدين الذي لبسوا لباس الدين نفاقا، وهو خطاب سياسي لتضليل البسطاء من الجماهير الأمية، ومن قام بترويجه وتعميمه من المثقفين ومن النخب السياسية والاقتصادية، فإنما هم من المستفيدين من مثل هذا النظام التعسفي.
إن نصرة المذهب لن تنطلي حتى على البسطاء من الشعوب ولن تلعب دوراً تضليلياً إذا ما انحرف الحاكمون باسم المذهب عن مصالح عامة الشعوب، أي عندما يخطؤون في إدارة شؤون شعوبهم الدنيوية. وبحكم أيديولوجية الأنظمة الدينية المزيفة للدين والمذهب القائمة على قواعد الطاعة العمياء وتنفيذ التكليف الشرعي عن العصيان للفرد فان الله يغضب على الناس، فستقع بالكثير من الأخطاء ومن أهمها تجاهل مصالح الناس، تحت دعاوى الصبر على الفقر وتعميم فضائله. وهم يبيعون البسطاء جنة الآخرة بـصبرهم على الفقر في الدنيا. وما دام الأمر كذلك، فهناك الكثير من الأخطاء التي يمارسها قادة الدول الدينية الزائفة، وتساعد على أن تبعد الناس عنهم، وتثور ضدهم، وإنه طالما لن تنتهي تلك الأخطاء، فإن الثورة ضد أولياء الأمر فيه تبقى عاملاً متفاعلا حتى تحين ظروفها في هذه البلدان ومن يواليها.
في الثورة السلمية في الهند قال غاندي: (لا يستطيع حتى الله أن يظهر أمام ملايين الجائعين إلاَّ بصورة رغيف الخبز).
من الواضح أن الدين إذا لم يوفر رغيف الخبز للفقراء، فهو ليس دينياً حقيقياً إذا لم يهتم بشؤون الناس.
فعقيدة الحكم الوطني الحقيقية والانتماء الديني الحقيقي بمذاهبه كانت وما زالت تعتمد على نشر الثقافة الوطنية واطيافها لنصرة الوطن بما تعنيه من الارتباط بالأرض، وحماية الحدود الوطنية، وتقديس سيادة الإرادة الوطنية، والكفاح من أجل تطبيق القيم العليا بالعدالة والمساواة واشباع الجائع واكساء العريان وتنمية البلدان والبحث العلمي وتنشيط العلم والثقافة والتربية السليمة، هو خطاب اخلاقي عملي تربوي يدعو للوحدة ويعمل على تطبيقها، ودون الخوض في سجالات عنصرية ومتطرفة لا تغني عن جوع بل تنشر الكراهية والعدائية وتنتج الارهاب بانواعه وتفتقد للايمان والتقوى ايا كان مذهبها ودينها، لان الطرح يكون عندها هداما، كون هذا المنحى الفكري السلبي ليس لهمبدئية ولا عمق إيديولوجي وتأثير إيديولوجي، بل ظنون واهمة وارتباطات هدامة مشبوهة ضد العراق وحضارته ..
وبعد ان قال الرسول الاعظم في الحديث الشريف :
( حب الوطن من الايمان ) ..
قال الامام علي عليه السلام : ( لو كان الفقر رجلا لقتلته ) ..
فاين نحن من هؤلاء .. فاتركوا الادعاء بالدين من كنتتم فالتكونوا واهتموا بامر الرعية والعدل وبناء الوطن ..