حين تأملت اللوحة الإسلامية الجميلة لغلاف الكتاب، سقط نظري على العنوان البارز( زنديق بغداد) وكأن الكتاب بِلا مؤلف، ثم سقط نظري على اسم المؤلف المرسوم بخط رفيع جدا!! : جعفر رجب!! تصورتُ الكتاب من الكتب التاريخية التي تتناول ظهور الزنادقة في بغداد، وتأكد لي أنه كتاب تاريخي. في الصفحة الأولى من الكتاب لا يوجد تجنيس بل تكرار للعنوان التفسيري الذي يلي العنوان الأول(زنديق بغداد)
فالمعني هنا هو (هذا ما رواه ابن الريوندي).. في الصفحة الثالثة غير المرقمة تعلن دار تكوين للنشر أن هذا الكتاب ليس بحثا تاريخيا بل رواية!! إذا كان عنوان الكتاب يستفز أنظمة الوعي الجمعي من خلال كلمة (زنديق) فالروائي جعفر رجب يخبرنا بالكلام التالي(أظن في قفا الكتاب يثّبت وحدة سردية من أحد عشر سطر تنتهي بهذه الجملة (لا ينجو منها إلا مَن أرتبط قلبه بالأعلى).. وسؤالي هنا قبل التنزه في الكتاب : هل الكتاب يحتوي وحدة وصراع الأضداد؟
وكيف يكون ذلك؟ ومجرد ذكر اسم ابن الريوندي : يعني نفي النفي ضمن منطق الجدل.
(*)
أزمنة الرواية تتنوع فهي تحمل الانشطار السردي بين زمنين
زمن الراهن العراقي المفخخ في (الجزء صفر) عنوانه
(السرداب – بغداد 2012).. يخبرنا السارد (مع بدايات الصباح ولحظة دخولهم المكتبة، وقبل أن يرتبوا بعض الكتب لبيعها، هزّ انفجارٌ شارع المتنبي في بغداد، وهز معه دكانهم العتيق الذي ليس سوى نفقٍ طويل مغطى على جانبيه بالكتب../ 12) وبعد عدة توصيفات لدهليز الكتب، يخبرنا السارد أن الانفجار لم يصب أحداً لكنه أصاب هذا الدكان دهليز الكتب وأحدث (حفرة بفعل الانفجار يؤدي إلى سرداب مظلم/ 15) في السرداب غرفة مربعة صغيرة، تحتوي خزانة مليئة بالكتب والمخطوطات المعتقة وسيعثر الأب على كتاب يحتوي أخبار ابن الريوندي، أو ما يسمى الآن السيرة الشخصية.
الزمن الثاني هو الزمن الذي يقرأ فيه حيّان سيرة ابن الريوندي في نفق الدكان الكائن في شارع المتنبي وتستغرق قراءة السيرة من أذان المغرب حيث(قلّب حيان أولى صفحات الكتاب، وقرأ ما رواه ابن الريوندي…/ 19) وفي ص487 يخبرنا السارد، أن ( حيّان… سامرَ وصاحَب الكتاب الليل كله، إلى أن أغلق الصفحة الأخيرة، ثم لف الكتاب بقماشة نظيفة وحمله تحت إبطه برفق، خرج وأقفل باب الدكان خلفه… وعند وصوله المنزل رفع الشيخ عبدالله آذان الفجر على مقام الصبا..).
زمن السيرة :ابن الريوندي لم يكتب بخط يدهِ سيرته، بل كان يمليها على تلميذه مهيار، وذلك مسطور في ص483 من الرواية (كتبت على يد(مهيار)، تلميذه في شوال 250 مضين من الهجرة)
(*)
نسيج السرد في رواية (زنديق بغداد) يحوك حكاياته على نول حكايات ألف ليلة وليلة، وتتراوح عناصر التشويق بين الزيادة والنقصان. وهكذا لدينا مجموعة من الساردين يتوارثون وسائل السرد الحكائي، لكن شيخة السرد الحكائي هي الشخصية الرئيسة الثانية (شيرين بانو)
(*)
الريوندي في (زنديق بغداد) يشغل وظيفتين : فهو الإطار الواسع الذي يحتوي صورا جماعية لشخصيات وأحداث وأزمنة، ثم فجأة تختفي كافة الصورة وتصبح الشخصية الرئيسة هي الصورة الوحيدة والكبيرة داخل الإطار أعني صورة ابن الريوندي. المتقلب بين المذاهب والمعارف الدنيوية والدينية والإلهيات وقد يكون حاله كما وصفه المعتزلي أبو القاسم البلخي(علمه كان أكثر من عقله) ويقارب ذلك قول المؤيد لدين الله الشيرازي حين يعلن أن ابن الريوندي(مصيبته في عقله أعظم من مصيبته في دينه)
أما أبو الحسن الخياط المعتزلي وابن الجوزي والإمام الذهبي وأبو علي الجبائي وابن كثير وأبو الفتح الشافعي
فقد أجمعوا على لعنه وتسفيه كتاباته في حين أبو الوفاء بن عقيل فطالب بقتله.. بسبب كتاباته التي تتجاوز على المقدسات الإسلامية.
(*)
الرواية أيضا تشتغل على متغيرين : الجغرافية / التاريخ الشخصية الرئيسة يضيق بعقلها وعاء المكان الأول، فيشجعه عمه بالذهاب إلى العراق في عصر الذهبي حضاريا حيث التناظر والتنافر بين العقول والمذاهب
(*)
شخصيتان في الرواية تنافسان ابن الريوندي في الظهور السردي: شيرين بانو وكذلك يوسف الرحالة، وكلاهما يمتلكان الجوهر نفسه وهما يخاطبنا ابن الريوندي في أواخر أيامه ِ بعد محاورة طويلة وعميقة يقول له يوسف الرحالة ( لا فائدة من البحث عن الحقيقة لأنك لن تجدها، وإن وجدتها فستُقتل/ 464) أما شيرين بانو، فتخاطبه بعد تسلله لقريته (أرحل بعيداً إن استطعت، جنود الولاة في كل مكان، ولرأسك ثمنه الذي يطمع فيه أصحاب النفوس الدنيئة… أركض إلى أهلك، فلا المقام مقامك هنا ولا هذه البلاد بلادك.. لا أقول أهرب وأصمت.. بل أكتب واستمر../ 480)
(*)
يدخل القارئ إلى فضاء الرواية، من خلال ذلك الحيز المؤدي بنا جميعا إلى الآخر(على دكة غسل الموتى سُجيت باردة كانت كالشتاء الذي يقتحم بيوتنا، (شيرين بانو) تقلبني بكفيها البيضاوين الممتلئين بحنان، تغسلني وتبعد يد أمي عني واجرة../ 25).. في ص482 يعود السارد المشارك في صياغة الحدث، إلى لحظة طفولته وهو على دكة غسل الموتى، بين يدي شيرين بانو(عندما كنت على دكة غسل الموتى. أسرت في أذني بعيدا عن مسامع أمي قائلة : يا فتى، لا تسمح لأحد كتابة قصتك كما يريد.. لا تسمح لأحد رواية قصتك كما يحب.. لا تسمح لأحد تغيير قصتك كما يشتهي.. ولا تسمح لأحد إنهاء قصتك كما يتمنى.. إنها قصتك في هذه الدنيا، أكتبها على أوراقك، بمدادك.. بقلمك .. بقلبك.. رفعت الأقلام وجفت الصحف..)
(*)
سؤال قراءتي لرواية (زنديق بغداد) هل المؤلف جعفر رجب تخفى خلف قناع مهيار تلميذ ابن الريوندي وكتب سيرة ً فكرية شخصية بصيغة رواية ..؟
جعفر رجب / زنديق بغداد/ هذا ما رواه ابن الريوندي/ منشورات تكوين/ الكويت/ ط2/ 2022