لكي لا يُستثنى شيء من الحملة الجادة للإفساد والتشويه التي تطال مجتمع العراق وتتقصد تأطيره بغير حقيقته وتصويره بما يسيء لتاريخه وثقافته ، و بعد ان غزا التجهيل والتسخيف كل جانب بدءا بحفلات تخرج الجامعات مرورا بعريّ الأعراس في الصالات تعريجا على تهجين الندوات والتكريمات بالساقط من “الفنانات والموديلات” وتسميات لا تمت لمسمياتها بصلة “مؤثرين ومشاهير وبلوگرات” ، جاء الدور اليوم على الراسخ المحترم من التقاليد والمناقب والعادات ،
بعيدا عن رأيك بالشعائر الحسينية -سواء كنت تراها بدعة وخرافة ام تراها حزنا واستذكارا ورسالة تبعا لبلدك ولدينك ومذهبك” فنحن في العراق نعرف أصول هذا الأمر ونميزه ونفرق بين أصله ومنبعه وهدفه وبين انحرافه وتشويهه ، وبالأخص من نشأ وتربى في المدن المشتركة والأحياء المتشابكة المذاهب ذلك الزمان والى وقت قريب ،
رأينا الشعائر الحسينية وعايشناها وحضرنا المجالس وعقلناها وانتفعنا بها واحببناها واعتبرنا منها و ألفناها ، ذهبنا مع أمهاتنا -صبيانا – الى بيوت جيراننا اخواننا احبابنا الذين كان الستر شعارهم والعفة رداؤهم والطيبة سماتهم ، كنّ نسوة لا يتكشّفن إلا على الطفل الذي لا يميز النساء وحتى ونحن كذلك لم نكن نراهن ونحن نرافق امهاتنا الا بكامل جلابيهن الشرعية السوداء المنسدلة عليهن ، أرى امي-وهي من غير مذهبهن- تجالسهن وتبكي معهن وتسمع “الملّاّية” المهذبة وهي تنعي وتسرد قصص اهل بيت ابن بنت رسول الله-عليه افضل الصلاة والسلام-المؤلمة المحزنة المعبّرة ، لا سِباب فيها ولا شتم ولا تجاوز ، لا ثأر فيها الا يوم يقوم الحساب ولا غضب فيها الا عن من خالف وصية رب الأرباب ،
وقبل حيّنا الحسيني هذا كنا في حيّ مسيحي من أحياء بغداد لا عائلة مسلمة فيه إلا نحن ، كنا مع أصدقائنا الكتابيين أطفالا نقف على الآبواب او اعلى السطوح نرقب الموكب “بالتشابيه” مستمتعين بصوره مندهشين ، وهو يمر من زقاقنا كل عاشوراء قادما من حيّ قريب يتقدمه رجال ينعون مصيبة ابي عبد الله يبكون ويقولون شعرا يبكي كبارنا ، لم نتساءل لماذا آباؤنا يشتركون رغم ملّتهم المختلفة ، لم نكن نستغرب لماذا “الفريد و جورج المسيحيان وأبي السنّي ونساء ورجال آخرون كثر من كمب الأرمن والآثوريين” يقفون للمشهد ويحزنون ويبكون ويسلّمون ، وبناتنا الصغار يقدمون الماء لهم وشيء مما يأكلون .
وبعد انتقالنا الى حيّ جديد لم نشعر باختلاف او اغتراب وكنا في صبانا لا نفوّت عاشوراء إلا في بيوت جيراننا نحضر الطبخ ونستمتع “بالقيمة والزردة وغيرها مما تلاشت من ذاكرتي من اسماء الأكلات” ، لا أذكر ابدا لسنين طويلة عشتها في اول شبابي وصباي ان رايت منظرا من الشعائر الحسينية ينفّرني او يزعجني او يستفزني ولا لحظت يوما طوال مواسم عاشوراء ما يثير التساؤل السلبي في عقلي ونفسي ويستدعي المراجعة رغم المناطق الكثيرة التي شهدته فيها من النجف وكربلاء الى الكاظمية والبياع والزعفرانية وبغداد الجديدة والعطيفية بل كنا نشهده قبل ذلك حتى في الأعظمية وباب الشيخ والكفاح ،
يد مجهولة عارفة عابثة قاصدة طالت المواكب والمجالس والمراكز اليوم ودخلت حتى الحسينيات “والملايات والقرايات” فدفعت بمراهقين ومنسلخين وملحدين ومتحررات ومتهتكات” بتمويل لاشك مدروس قد لا تخفى مصادره انما يخشى الكثيرون التصدي له وكشفه او ربما عجزا عن مقاومته او جهلا وتعصبا لجهة ما ، يد عبثت وابتكرت سخافات لا يقرها المذهب واصحابه واخترعت طرقا منفّرة لما يظنونه حزنا ، وادخلت السباب والشتائم والاعتداء ، يريدون للاجيال الجديدة من الشيعة قبل غيرهم ان يتساءلوا ويراجعوا ويستنكروا المذهب جراء ما يصدر منه “تشويها” ليهجروه أو ليميّعوه وتكون رسالته بلا قيمة ومصاب شهداء الطفّ الأبرار بلا مردود فيفرغ مفهوم مقارعة الظلم والفساد من محتواه ،
ثم يلتحق شباب الشيعة بما وصل اليه شباب عموم المسلمين من الإبتعاد عن الخُلق والقيم والجذور والمفاهيم العليا التي كانت في مناهجهم فتخلو الساحة للمتربصين من أعداء هذه الأرض فتُترك بعد ذلك بلاد الحرمين وبقاع الإسلام كما تُركت غزة وابطالها وحيدة للساعين الى احتلال بلداننا من الفرات الى النيل .