‏رحلة الحج بين جِمال الأمس وطائرات اليوم… وقلوب تهفو إلى الله…

‏رحلة الحج بين جِمال الأمس وطائرات اليوم… وقلوب تهفو إلى الله…

‏الحج، هذا الركن الخامس من أركان الإسلام، ظل منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام رمزًا للطاعة ولهفة في قلوب المسلمين للوصول إلى مكة المكرمة، تتجه إليه قلوبنا قبل أقدامنا، وتُتعلق به الأرواح وهي تنتظر آمال المغفرة والرضا من الخالق.
‏كان الحج في بدايات القرن الماضي قبل مئة عام تقريبًا، مغامرة إيمانية مليئة بالروحانيات أكثر من كونه رحلة سفر على الدواب والجمال. وكان الحاج يبيع ما يملك، أو ما جمعه طوال عمره، ليختم حياته بزيارة البيت الحرام.
‏كانوا يودّعون أهلهم بالبكاء والوصايا، ويضعون له “كفن الحج” ضمن أمتعته، فقد لا يعود بسبب رحلة مدتها أشهر طويلة.
‏وكانت القوافل تخرج من الموصل وبغداد وسامراء، تعبر الصحراء بالدواب والجمال، وتواجه الغبار والحر والظمأ، وربما قطاع الطرق أو الأمراض. وكان قائد الرحلة أو متعهد الحج كما نسميه اليوم يسمى “الجمال”.

‏أما في جنوب العراق، فلقد كانت السفن المتواضعة بصناعتها تنطلق من البصرة تأخذهم إلى جدة، رحلة بحرية قد تستمر أسبوعين أو أكثر، لا ضمان فيها للوصول، لأنهم يتعرضون لمخاطر هيجان البحر ومخاطراته.

‏أما سكنهم في مكة، فقد كان الحاج يسكن في بيوت قديمة بسيطة، يفترش الأرض، ويتقاسم الماء والطعام مع غرباء تحولوا إلى أحبة في الله.
‏لم تكن هناك مكيفات، ولا مكبرات صوت، ولا خدمات صحية أو خرائط أو دليل… فقط دعاء ودموع ونفوس مخلصة لله تدعوه بنية سليمة.
‏أما اليوم، في عصرنا الحديث، فقد أصبح الحج ميسّرًا من كل أنحاء العالم. فوسائط النقل، كالطائرات، تنقل الحجاج في ساعات، والمطارات تستقبلهم بالأجهزة الذكية، وخدمات “الباركود” والمترجم الإلكتروني، وكل ما يُسهّل الرحلة. والفنادق خمس نجوم، ومن يذهب عن طريق البر، فالباصات المكيفة والسيارات الشخصية الخاصة المهيأة بكل وسائل الراحة، إضافة إلى القطارات السريعة بين منى وعرفات ومزدلفة، وكل الأمور التنظيمية دقيقة ومدروسة…

‏ويبقى السؤال:
‏هل فقد الحج روحه؟ أم أنه ما زال كما هو في جوهر مناسكه وخشوعه؟
‏الحقيقة التي لا بد أن يعرفها الجميع هي أن الحج ليس وسيلة النقل، ولا الفندق، ولا التسهيلات، ولا جواز السفر أو تأشيرة الدخول، فهذه الأمور الإدارية تتطور مع تطور الزمان أسوة بجوانب الحياة الأخرى…
‏ولكن الحج هو وقوفك في عرفات بقلب منكسر، هو رميك للجمرات بنية رمي الشيطان من حياتك، هو سعيك بين الصفا والمروة بحثًا عن يقين هاجر، تلك الأم العظيمة التي تبحث عن الماء لتروي عطش ذلك الطفل الرضيع، هو طوافك بالبيت كأنك تطوف حول عرش ربك.

‏أما مقارنتنا مع الحجاج بين الأمس واليوم فهي مجرد أمور دنيوية تتطور مع كل زمان. فوسيلة النقل عندما كانت الجمال والسير على الأقدام أصبحت اليوم السفن، الطائرات، الحافلات، والقطارات. ومدة الرحلة التي كانت من شهرين إلى ستة أشهر أصبحت من 10 أيام إلى شهر. والمخاطر العالية مثل الأمراض والسرقات أصبحت قليلة جدًا بفضل التطور الطبي والتنظيم.

‏وتبقى النية الصادقة هي رمز تلك المغامرة الإيمانية التي ما زالت موجودة، رغم ضجيج وتوفر كل وسائل الراحة. نعم، لقد مرت مائة سنة على اختلاف الوسائل، لكن قلوب الحجاج ما زالت تهتف:
‏”لبيك اللهم لبيك”
‏كما ردّدها أجدادنا قبلنا، بدموع تنهمر من العيون…
‏وكما سيردّدها أبناؤنا من بعدنا، بنفس العشق ونفس الروحانية وفي نفس المكان.
‏وختامًا، إن الحج باقٍ ما بقيت القلوب تهفو إلى السماء، وأمنية يتمناها كل المسلمين….