في 3 تموز من عام 1963، دوّت في أروقة معسكر الرشيد ببغداد محاولة تمرّد مسلح غير مسبوقة في تاريخ العراق الحديث، قادها العريف الشيوعي حسن سريع، لتسجّل واحدة من أندر لحظات البطولة والفداء التي خرجت من صلب الجيش ومن قلب الطبقة الكادحة.
لم تكن هذه الانتفاضة انقلابًا بالمعنى العسكري المتعارف عليه، بل كانت فعلًا ثوريًا نابعًا من إرادة شعب مسحوق، نُفِّذ من قبل ضابط صف لا يملك سوى حلم الخلاص من بطش النظام البعثي الذي استولى على السلطة بانقلاب دموي في 8 شباط. ولأن أغلب الانقلابات في التاريخ العراقي كانت من تدبير جنرالات الطموح والمصالح، فإن ما أقدم عليه حسن سريع كان استثناءً صارخًا، ونموذجًا فذًا لمحاولة تغيير من القاعدة نحو القمة.
في فجر الثالث من تموز، سيطر الثوار على البوابة الرئيسية لمعسكر الرشيد، واعتقلوا عددًا من رموز السلطة، بينهم منذر الونداوي وطالب شبيب وحازم جواد. وسادت لحظة من الأمل، مع نجاحهم الأولي في بسط سيطرتهم على المعسكر والقاعدة الجوية، بانتظار إطلاق بيان الثورة من إذاعة بغداد وإطلاق سراح الضباط الشيوعيين المعتقلين في سجن رقم واحد.
لكن حسابات الأرض كانت أقسى من نبل الهدف. واجه الثوار مقاومة عنيفة من آمر السجن حازم الأحمر الكربلائي، ولم ينجحوا في اقتحامه. أما الطعنة الكبرى فجاءت من راضي شلتاغ، ضابط الصف الذي طُلب منه دعم الثوار بتحريك دبابات الإذاعة، فخانهم وأبلغ الرئيس عبد السلام عارف بالخطة، ثم عاد ليقود رتل دبابات ضد رفاقه، مطلقًا النار عليهم من سلاح الدوشكا، ليكون أول من قمع الانتفاضة التي كان يفترض به أن ينصرها.
فشلت الانتفاضة، واعتُقل قادتها وأُعدم بعضهم ميدانيًا، لكن آثارها لم تندثر. فقد أضعفت نظام البعث، وساهمت في تقويضه، حتى جاء السقوط في 18 تشرين الثاني من العام ذاته، بانقلاب عسكري قاده العميد صديق مصطفى من كردستان.
ورغم محاولة السلطة اتهام الحزب الشيوعي بالتخطيط للانتفاضة، فإن الوقائع تشي بغير ذلك. فالتحرك جرى خارج علم القيادة الحزبية، وبمبادرة من محمد حبيب الذي ارتبط سرًا بمجموعة الخط العسكري، من بينهم حسن سريع، وحرّكهم دون تنسيق مع المسؤول الحزبي إبراهيم محمد علي. وقد اعتُقل إبراهيم لاحقًا نتيجة وشاية حبيب، واستُشهد تحت التعذيب في محكمة الشعب دون أن يشي بأحد.
شكلت انتفاضة معسكر الرشيد لحظة وعي سياسي مبكر داخل الجيش، ومثالًا على أن الإرادة الجماهيرية قد تنفجر من القاع، خارج منظومات القرار والنفوذ. لقد خُذل الثوار، لا فقط بالخيانة، بل بالتواطؤ والصمت والتقاعس.
وسواء نجحت حركتهم أم فشلت، فإن ما قدموه من بطولة وتضحية سيبقى حيًا في الذاكرة الوطنية. فـحسن سريع لم يكن مجرد ضابط صف تمرّد، بل كان رمزًا لحلم طبقي وشعبي عميق بالعدالة والانعتاق. واستشهاده، ومعه رفاقه، يؤرخ لزمن عراقي كان فيه الحلم ممكنًا، حتى وإن وُئد.
في ذكرى تلك اللحظة، نقف لنحيي من قاوم، ونستذكر من غُدر به، ونكتب للتاريخ: أن الشجاعة لا تُقاس بالرتب، بل بالضمير.