محمد سالم البيرماني شاعر الغربة والبرهان

محمد سالم البيرماني شاعر الغربة والبرهان

في قريةٍ صغيرةٍ تدعى بيرمانة، من ريف بابل تنفست في العام 1949 أولى زفرات شاعر قدّر له أن يعيش بين المنفى الروحي والاحتراق الشعري، وكان أن حمل من قريته اسمًا لازمه كوسمٍ أبدي: محمد سالم البيرماني. لم يكن في مطلع حياته ما ينبئ بولادة شاعر سيكتب لمدنٍ لم تطأها قدماه، وسيبتكر بحرًا شعريًا لا يشبه سواه، لكن القدر كان يخط حكاية أخرى لطفلٍ سيصير، فيما بعد، أحد الوجوه البارزة في المشهد الشعري، لا لأنه صعد منصات الأضواء، بل لأنه حمل الكلمة كمن يحمل صليبه، ومضى.

تيتّم صغيرًا، ووجد في حضن أخواله ملاذًا أول، فانتقل مع والدته إلى الكوفة حيث ابتدأ حكاية التعليم في مدرسة “السهيلية”، ثم عاد إلى الحلّة بعد فقد والدته، تلك الخسارات المبكرة شكّلت وجدانه، ومنحته نزعةً تأمليةً عميقةً لم تفارقه حتى وفاته. ولأن الفقر يربّي الحلم أحيانًا، تطوع الشاب في الجيش العراقي ليحيا، لكن قلبه ظل في مكان آخر: بين دفتي كتاب، وعلى حافة بيت شعر. كان يقرأ بنهمٍ من لا يملك غير الحروف قوتًا، ويكتب كما لو أن القصيدة هي الوسيلة الوحيدة للتوازن وسط هذا الخلل الكبير الذي اسمه الحياة.

بدأت قصائد البيرماني تجد طريقها إلى الصحف والمجلات، فتنبه له النقاد، لا لأنه كان شاعرًا تقليديًا مطمئنًا، بل لأنه كان قلقًا، مجتهدًا، طامحًا لاكتشاف الجديد لا حفظ القديم. كتب عنه الدكتور علي عباس علوان والدكتورة بشرى موسى صالح، واحتفى به الناقد ناظم السعود، وقرأ تجربته حامد الهيتي، فيما أفرد له الأستاذ كريم الجنابي كتابًا خاصًا عن حياته ومخطوطاته ونشاطه الثقافي. ولم يفته أن يكون جزءًا من الكتب المرجعية؛ فقد سجّله الدكتور سعد الحداد في أنطولوجيا الشعر في الحلة، وأدرجه الدكتور صباح نوري المرزوق ضمن تكملة شعراء الحلة.

كان شاعرًا لا يكتفي بكتابة القصيدة بل يسائلها، يحفر في بنيتها، ويقدّم رؤى نقدية عن ماهيتها. في وقت كانت قصيدة النثر ما تزال تحاول إثبات شرعيتها بين جدران الأكاديمية، كان البيرماني يقدّم “نظريته” الخاصة التي عُرفت، نصف تندّر ونصف إعجاب، بـ”نظرية البيرماني”. وكان من أجرأ ما قام به أنه اكتشف بحرًا شعريًا جديدًا أسماه “بحر بغداد”، وقد سُجِّل باسمه في صحيفتي الرافدين والرأي. ومن مساهماته المميزة أيضًا دراسته اللغوية حول خصائص حرفي الظاء والضاد، تلك الحروف المهملة التي أحياها ببحث مستفيض.

أصدر ديوانين هما: هذا هيامي، والذي رأى البرهان.

أما مخطوطاته، فكانت كثيرةً وتدل على شاعر مسكون بشوقٍ نحو ما وراء الأفق: ساعة استشهاد فارس المسلة، سيدي لبنان، آنستي بيروت… عناوين تقول إن قلبه كان موزعًا على مدنٍ لم يزرها، وأوطانٍ كانت بمثابة أحلام شخصية.

لكن خاتمة البيرماني كانت مأساوية بقدر ما كانت لائقة برجل عاش في تخوم الألم. وفي 12/13 أذار  2011 كان عائدًا من أمسية شعرية في اتحاد أدباء وكتاب بابل، هزّ انفجار شارع المكتبات، وأصيب فيه البيرماني بجراح بليغة، ظل يعاني منها حتى وافاه الأجل في 13 آذار 2011. شُيّع إلى النجف الأشرف، وشيّعت معه طبقة من الشعراء الذين آمنوا أن القصيدة ليست صدى بل فعل حياة، وأن الشعر لا يُكتب إلا من الجراح المفتوحة.

وقد أقامت له جمعية الرواد في الحلة أمسية استذكاريه، لم تكن مجرد حفل تأبين، بل اعترافًا بأن شاعرًا مثل محمد سالم البيرماني لا يموت، بل يتحوّل إلى ظاهرة تُروى، ويظل اسمه حيًّا في ذاكرة الحرف، كما كان قلبه حيًّا في خضم الألم .