في عراقٍ ما زال يتعافى من جراحه، تظل مواسم العزاء الحسيني أكبر من طقسٍ ديني أو فعالية جماهيرية. إنها استعادةٌ سنوية لذاكرة جماعية حُفرت في تفاصيل الوجدان، لا في صفحات الكتب. فحين تمشي بين المواكب، لا ترى فقط قدور الطعام، بل ترى أرواحًا تهتف، دموعًا تتوهج، ووجوهًا كأنها خرجت من كربلاء نفسها.
في كل موكب قصة، وفي كل دمعة قضية. الأكفان، شواهد القبور، صور الشهداء.. كلها شواهد على أن هذا الوطن، الذي سرقته الذئاب البشرية، ما زال حيًا في قلوبٍ تنبض باسم الحسين.
المواكب ليست فقط أماكن للضيافة، بل ساحات لإعادة بثّ القيم، وتجديد البيعة للمبادئ التي قُتل من أجلها الإمام الحسين وأصحابه. هناك، حيث يُقدَّم الشاي مع الحب، وتُمسح جباه الزائرين بكفوف التعب، يتجلى العراق الحقيقي: عراق المحبة، والوفاء، والإخلاص.
الحسين مشروع وليس شخصًا. هو مشروع للحرية والعدالة والكرامة، ولهذا، يبقى حيًا في كل خطوة، في كل موكب، في كل نداء “لبيك يا حسين”.
تذوب الفوارق بين الطبقات والقبائل، وتنتصر الهوية الحسينية الواحدة. لا أحد يسأل: من أنت؟ ومن أين؟ لأن الجميع هناك، خُدام على عتبة الحسين.
نُحيي عاشوراء لا لنحزن فقط، بل لننتصر للكرامة، ولنقول: نحن قوم لا نرضى بالذل، ونحمل في قلوبنا راية: “هيهات منا الذلة.”
في كل عام، نعود إلى كربلاء، أو تحملها إلينا قلوبنا، ليس لأنها قصة بكاء، بل لأنها رسالة نهضة. الحسين لا يُبكى عليه فقط، بل يُتبع.. ويُحيى في كل من وقف ضد الظلم، ونطق بالحق.