سؤال يتردد في خلد مَن يتأمل ما يحصل من أحداث ونقاشات وطروحات ونزاعات محتدمة في بلادنا , ويحاول أن يبحث عن القاسم المشترك بينها , لكي يفهم حقيقة ما يدور في عالمنا الدامي.
ومَن يتعمق في البحث عن الجواب يكتشف أننا لا نمتلك ساسة , ولا نعرف العِلم السياسي , ولا يوجد في أجيالنا السابقة والحاضرة منظرون سياسيون , وقادة قادرون على إستيعاب مفردات الواقع والنهوض بالوطن إلى حيث عليه أن يكون.
وبسبب هذا الفراغ السياسي على مدى أكثر من نصف قرن ولحد الآن وصلنا إلى ما وصلنا إليه.
في الواقع العراقي لا يوجد ساسة , لأن الساسة الحقيقيون أصحاب الخبرات الواقعية والعلوم العملية في التعامل مع الدنيا دولا ومنظمات , قد أسسوا دولة العراق في بداية القرن العشرين
و( وضعوا) دستورا متطورا مضت على ضوئه لمدة ما يقرب من أربعة عقود بتفاعلات ديمقراطية ومعرفية ذات قيمة.
هؤلاء هم الرعيل الأول المترشح من الإمبراطورية العثمانية بعد سقوطها , والمتفاعل مع القوى المهيمنة آنذاك.
وكان من المفروض أن تتواصل أجيالهم وتتوالد وتتفاعل , من أجل صناعة ساسة يستوعبون حالة الوطن ويؤسسون لمستقبله , شأنهم شأن الدول التي من حولهم.
لكن الذي حصل هو الإجهاز على الرعيل الأول من الساسة والقضاء عليهم تماما , بتحقيق الثورات وإقامة الأنظمة العسكرية , التي عطلت العمل بالدستور , ومضت على هدى الدستور المؤقت حتى خاتمتها المعروفة في التاسع من نيسان عام ألفين وثلاثة.
وقد حصل في تأريخ البلاد المعاصر إنقطاع شامل وصراع ما بين الذين يرغبون أو يعملون بالسياسة , بحيث ترسخ في عقولنا وضمائرنا أن العمل السياسي عبارة عن صراع دامي , وحرب لا هوادة فيها بين أبناء الشعب الواحد.
فالذي لديه رأي سياسي لا بد له أن يعيش بالسجون , ويحسب على أنه ضد النظام القائم , وعليه وعلى كل من يمت بصلة إليه أن يذوق الأمرّين , لأنه صاحب رأي ونظرة قد لا تتفق مع طبيعة النظام العسكري المهيمن على السلطة.
أما موضوع الإنتماء لحزب غير حزب السلطة , فأنه من المحرمات التي يتم إعدام الفرد عليها. ومضى في وعينا , أن العمل السياسي مهنة دم وسجون وتعذيب وتنكيل وفتك بالآخر من أجل السلطة.
ولا زال إلى يومنا هذا يقودنا إلى الويلات والمآسي والتشظي وفقا لرؤانا السلبية , وما تراكم عندنا من وعي ظلامي وإنحراف في الرؤية والتفكير.
فالفرد الذي ينتمي لحزب آخر هو عدو , ولا بد من التصارع والإقتتال معه , وتوفير أسباب التنكيل به وتخوينه وتجريمه , ومن ثم قتله أبشع قتلة أو تشريده والنيل من كل ما يتصل به.
لقد تأسس في أعماقنا نظام سياسي منحرف لا يمت إلى العصر بصلة , وترسخ في أذهاننا أن السياسة إمتلاك السلطة والإستحواذ على الكرسي المقيت.
وفي هذا الخضم المتلاطم من التفاعلات الدامية على مدى أكثر من نصف قرن , إبتعدنا عن العراق كوطن , وصارت همومنا تنصب على الحزب والرئيس أو القائد , وعلى الكرسي والقبض على الحكم والتحكم بمصير الآخرين , وتحديد حريتهم ومصادرة حقوقهم.
وأضحى الوطن في مفهومنا عبارة عن كرسي أو شخص أو حزب مستحوذ على السلطة في بلد يئن من صراعات أهله وفتكهم به.
وبسبب ذلك أمست ثقافتنا ثقافة كراسي ومناصب وإستبداد وإنفراد بالسلطة.
وبعد التاسع من نيسان تواجدنا بكل ما ترسب فينا من عوامل نفسية وعقد وإنفعالات وتفاعلات سلبية , وجلسنا نواجه أنفسنا وسورات الغضب والإنفعال والإنتقام تعتمل فينا , وتفرض علينا ما لا يقبله العقل ويرضاه الواقع , وتنفر منه القيم والمعايير.
ووجدتنا نحاول أن نبعد ما يذكرنا بالمآسي والويلات والإنتقامات , وحسبنا أننا سنحقق ذلك بتكرار ذات الممارسات.
وإذا بنا نسقط في وادي الدمار الشنيع الذي لا يرجوه أيٌّ منا ولا يرغب به , لكنه أصبح مأسورا به ويتحرك وكأنه بلا إرادة أو قرار.
رجعنا إلى ذات النقطة التي هي عبارة عن محطة فراغية بلا ساسة.
محطة خالية من العقل السياسي والخبرة السياسية , ومبنية على التجربة والخطأ والرغبة القصيرة النظر والبعيدة جدا عن الصواب , وهكذا ترانا نتخبط ونحسب أننا نصيب ونريد الخير للشعب والوطن , ونحن نجري إلى غير ما نريد ونرغب.
لأننا بلا خبرات ولا قدرات قيادية ووعي سياسي حضاري , وفهم معاصر وبعيد المدى للأمور التي نحن بصددها.
وهذا وضعَنا في محنة تأريخية وظرف مصيري لا نعرف كيف نواجهه , لأننا لا نمتلك المهارات الكافية للوصول إلى قرارات ذات قيمة مهمة للبلد.
فإنطلقت رغباتنا ونحن نعبّر عن ثقافاتنا الكرسوية , التي تحررت من الردع والخوف , بل أسست قدراتها لكي تكون مصدر خوف وردع للآخرين من أبناء الشعب , الذي إمتلكنا أمر تقرير مصيره.
ويبدو إن العراق يخلو من الساسة بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة , وقد تكررت التجربة منذ سقوط المملكة العراقية , وأصبح الضباط المهنيون يحسبون أنفسهم ساسة , وما لديهم من علم السياسة شيئ مفيد.
وكل مَن يجلس على كرسي القوة يحسب نفسه خبيرا بالقيادة , وينتهي إليه ويبدأ منه علم السياسة , وصار يسمي نفسه سياسيا ومناضلا كبيرا , لأنه أزاح من كان يجلس على الكرسي قبله وجلس مكانه.
فالحكومات المتعاقبة قاطبة ومنذ الرابع عشر من تموز عام ألف وتسعمائة وثمان وخمسين وإلى اليوم حكومات بلا ساسة.
حكومات مبنية على رغبات وتوجهات حزبية أحادية ضيقة الأفق ومحدودة المنطلقات التطلعات.
ولو كان هناك ساسة لما حصل الذي حصل!!
ومقارنة بسيطة بيننا وبين دولتي الباكستان والهند اللتين بدأتا بعدنا بربع قرن , توضّح ذلك بما لا يدع مجالا للشك.
وهكذا ترانا اليوم نعيش في زمن بلا ساسة , فلا تجد فيه مَن لديه خبرة وطنية ذات قيمة مفيدة وجادة وترتقي إلى مستوى الظرف العصيب الذي يمر به الوطن.
بل الكل يستسلم للإنفعالات وتصفية الحسابات والإنتقامات , ولا يسمح للعقل أن يبوح بشيئ لأنه يصطدم بجدران العواطف السلبية الفولاذية , التي ستأخذ الجميع إلى ما لا تحمد عقباه.
وبسبب غياب العقل السياسي وسيادة الآخر , الذي يرى الأمور من وجهة نظره المحدودة أيا كانت تلك النظرة , ترانا في خضم صراعات ستؤدي حتما إلى ضياع الجميع , وخسارة الوطن لكل ما يمت بصلة إليه.
فليس من السياسة أن يحصل الذي يحصل , وليس من السياسة أن يُطرح ما يُطرح , وليس من السياسة أن نرى ما نرى.
إن الذي يجري تبرره ثقافة الكراسي البغيضة , التي لا ترى أبعد من قوائم الكرسي , وهذا ما جرى في العراق على مدى نصف قرن , وهو يتجدد بعزم وإندفاع أشد مما حصل أضعاف المرات.
إن العالم ينظر إلينا بعين الهزء والإستغراب والعجب.
ويتساءل ألا يوجد في هذا البلد ساسة.
ونجيبه نعم لا يوجد ساسة, لأننا لا نُبقي على السياسيين , ولا يوجد عندنا تواصل أجيال أو تفاعلات سياسية , وهذه هي أساس العلل.
بل عندنا تناحرات سياسية , ولن يتبدل طبعنا , وتتحسن أحوالنا , إلا إذا طاف صوت العقل في شوارعنا , وراجعنا أنفسنا وآليات تفكيرنا , وإنتصرنا على الإنفعال الفتاك الذي يحصدنا حصدا.