في مدينة الحلة، حيث يمتزج طين الفرات بالحرف الأصيل، وُلد عام 1921م رجل لا يشبه سواه، رجل آمن بأن العلم ليس حرفةً فحسب، بل رسالة يُعاش لها وتُعانق بها الحقول والمختبرات والفكر. هناك، في بيتٍ عراقيّ الجذور، نبتت بذرة الفيزيائي والفيلسوف الدكتور محمد عبد اللطيف مطلب الأسدي، فشبّ على توقٍ داخليٍّ للمعرفة، لا يشبعه سوى ضوء الحقيقة.
بدأت رحلة الدكتور مطلب من المدرسة الغربية، مرورًا بمتوسطة وثانوية الحلة، حيث ظهرت عليه ملامح النبوغ المبكر، ثم انطلقت قدماه نحو بيروت، المدينة التي كانت آنذاك منارة للتعليم العربي الحديث، ليدرس في الجامعة الأمريكية ويتخرج عام 1943م متخصصًا في العلوم الفيزيائية. ولم تكن شهادته نهاية طريق، بل كانت بوابة لعودته إلى العراق كي يعلّم، ويشعل في أذهان طلابه شرارات السؤال والمعرفة، أولاً في ثانوية الحلة، ثم أستاذًا في كلية العلوم بجامعة بغداد.
لم يكن الطريق مفروشًا بالورد لهذا العالِم الحالم، ففي وطنٍ اعتاد أن يتوجّس من الفكر الحرّ، لم يشفع له علمه ولا نُبله، فسُجن في نقرة السلمان لعشر سنوات، فقط لأنه آمن بوطنٍ أكثر عدلاً وحرية. ولعل هذه المحنة، بدل أن تضعف إرادته، شحذت عزيمته، فخرج بعد ثورة 14 تموز 1958، لا ليهدأ، بل ليبدأ من جديد، بحماس من يعرف أن العلم وحده لا يُسجن.
في عام 1964م، غادر إلى ألمانيا الشرقية، وهناك لم يكتفِ بالدراسة، بل أدهش أساتذته وحاز على شهادة “الهابيل”، وهي أعلى من الدكتوراه التقليدية. ثم نال عام 1968م دكتوراه في الفيزياء النووية من جامعة درسدن، تبعها بأخرى في فلسفة الفيزياء من جامعة همبولت عام 1974، وكأنه أراد أن يجمع بين الدقة العلمية وعمق التأمل الفلسفي، بين المخبَر والكتاب.
عاد إلى العراق عالمًا مكتمل النمو، فدرّس لأكثر من ثلاثة عقود، وساهم في صياغة عقولٍ شابة كانت بحاجة إلى عقلانية العالم وشغف الفيلسوف. لكن القلم لم يفارقه أيضًا، فكان مؤلفًا غزيرًا، ترك لنا إرثًا معرفيًا متينًا، من بينه:
فلسفة الفيزياء (1977)، تاريخ علوم الطبيعة (1978)، صورة الكون (1978) القنبلة النيوترونية (1981) علماء فلاسفة (حلقات ضمن الموسوعة الصغيرة) وكتب مقالاته بلغةٍ علمية سلسة، جعلت من الفيزياء حكايةً تُروى، ومن المعادلات أسئلةً وجودية، فكان الجسر بين التخصص والنخبة، والعامة المتعطشة للمعرفة.
لم يكن مجرد أستاذ أو كاتب، بل كان كما قال عنه أحد تلامذته: “يدخل القاعة وكأنّه يحمل الكون كله في دفتر، يشرحه لا بالأرقام، بل بالفكر، وبلغة من رحيق الحكمة”. ورآه زملاؤه نسيجًا وحده، لا لأنه اجتهد، بل لأنه لم يتوقف عن الاجتهاد، ولأنه جسّد في شخصه معنى أن يكون الإنسان جسرًا بين الحضارات والعلوم.
خاتمة المسار… ولكن ليس للذكرى غياب
الدكتور محمد عبد اللطيف مطلب، لم يكن مجرد فيزيائي، بل كان فكرًا متجددًا، وعزيمة لم تلن أمام السجن أو الغربة أو الزمن. هو من الأسماء التي يجب ألا تغيب عن الذاكرة الأكاديمية العراقية والعربية. لقد أثبت أن العالم الحقيقي ليس من يحفظ القوانين، بل من يفتح بها أبوابًا جديدة للعقل والروح.
وفي زمن تغلب فيه الضوضاء على الفكرة، يظل الدكتور مطلب صوتًا نقيًا في سجل العراق العلمي، ورايةً مرفوعة لأجيالٍ لم تولد بعد.