لماذا دائما”- حين تقع الكوارث وتحدث الانهيارات – نسارع إلى توجيه أصابع الاتهام إلى حكامنا وتحميلهم مسؤولية ما يحصل ، ونحاول في نفس الوقت تبرأت أنفسنا من كل المثالب والعيوب التي نلصقها بهم ونكيلها البهم بسخاء ؟! . لا أروم الدفاع عن جرائم أولئك الحكام بحق شعوبهم ، ولا التغطية على جهالة وضحالة ما يتصفون به من خصال هي أقرب إلى البهيمية منها إلى الإنسانية ، ولكني أريد أن ألفت النظر إلى أصل المشكلة وأشير إلى بيت الداء . فعلى مدى عقد من الزمن الأغبر الذي تسلط فيه الرعاع وسقط المتاع على مصائر هذا البلد المنكوب وتلاعبوا بسرائر شعبه المنكود ، لم يبقى أحدا”من العراقيين دون أن يلعن سياسة المالكي الخرقاء وفساد طاقمه من السرّاق والجناة . وبدلا”من يستثمروا فرصة الانتخابات البرلمانية الأخيرة ليترجموا معاناتهم اليومية إلى مواقف عملية ، عبر اختيار سبيل (التغيير) الذي دعت إليه وطالبت به حتى المراجع الدينية التي يكنون لها الاحترام والاجلال ، فإذا بهم يثبتون بأنهم ليسوا بحاجة إلى تغيير واقعهم المزري ، بقدر ما هم يتطلعون إلى وجود طاغية معصوب العينين لا يرى أبعد من حصن مصالحه الشخصية ومقفل العقل لا يسمع سوى صدى غرائزه الحيوانية ، يقودهم كالقطيع إلى مذابح الحروب الأهلية التي لا تبقي ولا تذر . واليوم حيث يكيل زعران السياسة تهم التخوين بعضهم للبعض الأخر من جهة ، ويتلاوم العراقيين المأخوذين بصدمات الأحداث الدرامية المتتابعة فيما بينهم ، إزاء الأسباب والخلفيات التي جعلت من المدن والمعسكرات تسقط وتتهاوى بهذه السرعة الخاطفة دون مقاومة تذكر . وكأنهم بذلك يحاولون التملص من المسؤولية التي تقع على عاتقهم ، جراء ما يحصل في ربوع العراق الموشك على التقسيم والتفتت إلى دويلات طائفية وكانتونات عشائرية ، بعد أن أصروا بعناد لا يحسدون عليه لمعاودة ارتكاب أخطائهم القاتلة وتبني مواقفهم المميتة ، لاسيما عبر إعادة انتخاب رموز الحكومة الحالية الفاشلة ، رغم كل الجرائم التي ارتكبت من قبلهم أو تلك التي اقترنت بأسمائهم ، وكأن لسان حالهم يقول إن مصيرنا مرهون بمصيركم ، حتى وان كانت سياساتكم تقودنا إلى مجازر الموت محارق الفناء . أفبعد كل هذا تندهشون وتستغربون لما حصل ويحصل في العراق ؟! لقد أصاب النائب (صباح الساعدي) حين حذر العراقيين قبل الانتخابات قائلا”(( أنها فرصتكم الأخيرة ؛ إما أن تكونوا على قدر من المسؤولية وتشرعون بالتغيير ، وإما أن تستحبوا العبودية على الحرية والذل على الكرامة والفناء على النجاة ، وحين ذلك لا تلوموا بعدها إلا أنفسكم )) . والمفارقة إن مظاهر السقوط المتسلسل للمحافظات والأقضية والنواحي ، ناهيك عن الحصون العسكرية والمقرات الأمنية ، لم تفاجئ فقط الحكام العراقيين الغارقين في مناكفاتهم السياسية والحزبية ، حتى وان قبضة الإرهاب تدق على أبواب بيوتهم الفارهة ، فضلا”عن المحكومين الذين استحبوا العمى على البصر واستكانوا إلى الجهل بدلا”من البصيرة فحسب ، وإنما – وهنا تكمن المفارقة – مقاتلوا داعش الذين لم يكن يدور بخلدهم إن مستوى الهزيمة النفسية بلغ من العراقيين – جيشا”وشعبا”- هذا القدر من الاستشراء والانتشار ، بحيث تكفي مجرد صرخة عابثة حتى تجعلهم كالهباء المنثور . ولتجنب الوقوع في مزالق الخطابات الانفعالية والمناقشات الدواوينية ؛ حيث نزق العاطفة يتغلب على منطق العقل ، ونزعة التهويل تعلو فوق لغة التحليل ، فان نظرة تأمل فاحصة تبين لنا إن بروز هذه الظاهرة الإنسانية الخطيرة ، وعلى هذا النحو من الفعل المؤثر والانتشار السريع ، ما كان لها أن تتم على هذا النحو المفاجئ والمباغت بين ليلة وضحاها ، بدون مقدمات مادية ومعنوية سهلت لذلك الفعل وسوغت لذلك الانتشار . وبضوء استقرائنا للأحداث ومتابعتنا لتداعياتها ، منذ أيام السقوط الأولى للنظام السابق ولحد الآن ، فقد ظهرت أمامنا واضحة بوادر تنفيذ (مشروع تقسيم العراق) الذي وضع مخططه نائب الرئيس الأمريكي الحالي (جو بايدن) ، إلى ثلاث دويلات مستقلة تبعا”لأوضاعها الجغرافية والسكانية ، حيث دولة للأكراد في الإقليم الشمالي ، ودولة للشيعية في الإقليم الجنوبي ، ودولة للسنة في الإقليم الغربي . ولأنه مشروع يتعارض تماما”مع كل الحقائق الجغرافية والوقائع التاريخية والمعطيات الاجتماعية والخصائص الثقافية والمعطيات الديمغرافية للمجتمع العراق ، فقد أريد له أن ينفذ على مراحل مدروسة وفترات محسوبة ، بحيث تكون ممانعة العراقيين ورفضهم لهكذا مشروع في أدنى مستوياتها من الناحيتين السياسية والنفسية . وهكذا وضع هذا المخطط الاستعماري – بحسب تصورنا الشخصي – على طاولة التنفيذ من خلال مراحل ثلاث ؛ الأولى (تمهيدية) وقد تكفلت بها عملية غزو العراق وإسقاط نظامه السياسي وتفكيك مؤسسات الدولة وتحطيم قدراته العسكرية والاقتصادية . وإما المرحلة الثانية (نفسية) – ونعتقد أنها الأخطر – فقد كانت من نصيب الصراعات الاقوامية والحروب الطوائفية ، التي أنيط
بها – وقد أفلحت في ذلك أيما فلاح – إحداث شرخ نفسي وتصدع قيمي وتمزق رمزي داخل نسيج المجتمع العراقي ، بحيث لم يعد هناك انتماء موحد لمجتمع أو ولاء مشترك لوطن ، إنما انتماءات متذررة وولاءات مبعثرة ، تمحى بين صراعاتها الشخصية العراقية المعيارية ، وتضيع وسط أتونها فكرة الهوية الوطنية الجامعة . وأما المرحلة الثالثة (تنفيذية) في المكلفة بإخراج مشروع تقسيم العراق من أدراج الفكرة إلى حيز الواقع . والحال انه ليس هناك ما هو انسب وأفضل من هذه الفرصة المفبركة – نعم أنها لمؤامرة خيوطها تتوزع بين اللاعبين الدوليين والإقليميين والمحليين – التي تجعل من ذلك المشروع حقيقة قائمة تبصر النور وتفرض منطقها على أرض الواقع . وهكذا فقد بادر الأخوة الأكراد من جانبهم باحتلال ما يسمى (بالمناطق المتنازع عليها) بحجة حماية الأمن القومي للدولة الكردية المرتقبة ، في حين شرعت المليشيات الطائفية داخل المحافظات الأخرى ، بممارسة أعمالها الإرهابية المتبادلة عبر إجراءات القتل والتهجير على الهويات العشائرية والطائفية ، كما لو أنها كانت تنتظر حدوث مثل هذه المصيبة الوطنية لتستأنف أنشطتها الدموية دون وازع من ضمير أو رادع من قانون ، هذا إن لم تكن الدولة الفاشلة هي من يمولها بالمال والسلاح ويشحنها بالشراسة وبالعدوانية . والآن هل هناك أمل بان يعود العراقيين إلى رشدهم ويدركوا حجم الكارثة المحيقة بهم ، عسى ولعل يتركوا خلافاتهم ينبذوا صراعاتهم ويربحوا مصيرهم كشعب وكيانهم كوطن ، أم تراهم سيبقون سادرين في غيهم عامين عن واقعهم ومتجهين إلى حيث التقسيم والتمزيق والتشطير ؟؟!! . شخصيا”أرى إن الاحتمال الأخير هو الأقرب إلى التحقق منه إلى الخيار الأول ، وهنا لا يطنن أحدا”بتاتا” أن واقع التقسيم سيكون نعمة ونعيم لطرف دون آخر ، وإنما سيكون نقمة على الجميع وجحيم يحرق الكل ، ومن يعش يرى !!! .