كان ترامب يريد إرسال رسالة مزدوجة تتضمن الطمأنة والتهديد في نفس الوقت للسيد الخامنئي عندما قال بعجرفة وابتسامة مصطنعة: (اننا نعرف مكانه، لكنه بأمان)، ملوّحاً بإمكانية اغتياله، وكان قد طالبه سابقاً (بالاستسلام غير المشروط).
سألت نفسي وقتها: ماذا يريد رجل مُسن عمره ست وثمانون سنة من الحياة؟
هذا الرجل الذي خبر الدرس والأسرة والعمل والسجن والثورة والكتابة والحرب والحُكم وصار(المعارض) و(المؤلف) و(السيد) و(الامام) و(الرئيس) و(المرشد) و(القائد) و(آية الله) و(الولي الفقيه)
بماذا يمكن ان يختم رجل مثله حياته؟ وماذا يمكن ان يضيف الى سيرته الذاتية من ألقاب؟لم يتبق سوى لقب (الشهيد)
تخيلتُ ان ذلك السيّد المُسِن ابتسم ابتسامة هادئة حينما سمع تهديد ترامب، وربما التمسَ له العذر، فهذا الترامب البغيض لا يعلم أن للسيد جَدّاً عظيماً ضَرب السيف هامته وهو يصلي لكنه لم يحزن، بل قال: (فُزتُ ورب الكعبة). ولا يعلم ترامب هذا أن الستة والثمانين عاماً التي قضاها خصمه المُسن في هذه الحياة مَرّت عليه وهو يسمع، ويتخيل، ويعيش، ويتنفس، قصة جَدّه العظيم الذي قُتل رضيعه بين ذراعيه فخاطب السماء قائلاً: (ان كان هذا يرضيك فخُذ حتى ترضى) ولم يتراجع عن موقفه حتى فاضت نفسه على تراب كربلاء. ولا يعلم ترامب وربيبه النتن ان اجداد السيّد توارثوا قولاً يرددونه هُم وانصارهم جيلاً بعد جيل ويحافظون عليه كتميمة حامية هو:(الموت لنا عادة، وكرامتنا من الله الشهادة). فأي حائط صلب من التضحية سيقف أمام من يريد التراجع والاستسلام؟
نحن العرب نلوم أنفسنا دائماً لأننا لا نقرأ كثيراً. لكن يبدو أن الأمريكيين والإسرائيليينلا يقرأون أيضاً. ولا يعرفون شيئاً عن بني هاشم وعن حِدتهم التي تجعلهم يفضلون أن ترفع رؤوسهم فوق الرماح على ان يحنوها لأحد او يُعطوا بيدهم إعطاء الذليل. انه كبرياء الأنبياء الذي ينتقل من جيل الى جيل، وهو أمر يجعل من الصعب علينا ان نتوقع منهم موقفاً مهزوزاً في لحظةِ حسم، لأنهم يحملون على اكتافهم إرث نبي وتاريخ قائمة طويلة من الأولياء والشهداء والمصلوبين والمطاردين وأصحاب أكبر (كلا) في كل زمن.
لم يبق في هذه الحياة الحافلة أمام السيّد الثمانيني الذي قضى حياته محارباً سوى تمني أن يحصل على لقب (الشهيد) كي يلتحق بأجداده العظماء وأخوته وابنائه الذين سبقوه. وسيُقَدّم ترامب وربيبه النتن خدمةً للسيّدِ لو نفذا تهديدهما. لكن هل يستطيعان تحمل نتائج مثل هذه الخطوة في بيئة تصنع الرموز وتضخها في التاريخ والجغرافيا والمخيال العام وتبقيها حية على مدار الزمن.
لن إيران تنتهي بضربة جوية او بمقتل زعيم او بخسارة معركة. وعلى مساعدي ترامب الأغبياء أنْ يخبروه ببعض منعطفات التاريخ الحديث في الشرق، وأنَ بيد السيّد الثمانيني المُسن بعض مفاتيح تغيير التاريخ، وليقولوا له ان ناصر شاه القاجاري استفز السيد الشيرازي فأصدر فتوى التنباك الشهيرة وأشعل ثورة وغيّر التاريخ، وان الشاه محمد رضا بهلوي سجن وطارد السيد الخميني فغيّر الأخير التاريخ، وان (صدّام) اغتال السيد الصدر الأول فتغير التاريخ، واغتال الصدر الثاني فتغير التاريخ والمجتمع. وحين أرادت إسرائيل احتلال لبنان خرج السيد حسن وغيّر التاريخ، وحين اجتاح الإرهاب العراق أصدر السيد السيستاني فتوى الجهاد فتغير التاريخ.
تفويض السيد علي الخامنئي صلاحياته إلى المجلس الأعلى للحرس الثوري يعني ان هناك تغييراً في موازين القوى داخل الدولة الإيرانية وفي منظومة الحكم، ويعني أن الحرس الثوري أصبح يمتلك السلطة لإطلاق عمليات عسكرية واسعة على مستويات مختلفة واستخدام كل ما تمتلكه إيران من قوة دون الرجوع اليه. وهذا يعني ان الحرس هو من يقود إيران وهو الذي يدير الحرب كما يضبط إيقاع الأمور في الداخل. وهذه خطوة استباقية تضمن عدم انهيار الدولة في حال تحقق السيناريو الذي يلوّح به الإسرائيليون والامريكيون وهو سيناريو اغتيال السيد الخامنئي.
كما انه يعني حسم التنافس وفك الاشتباك في الرؤية بين الحرس وبين الحكومة، وبطريقة أوضح هي (عودة من الدولة الى الثورة) و(استعادة للسلطة من الإصلاحيين).
قبل ان يُقدم ترامب ونتنياهو على خطوة غبية تمس السيد الخامنئي عليهم ان يفهموا معنى (قوة الفتوى) وان يفكروا في تبعات هذه المغامرة التي لا يريد أحد يعيش في دول الشرق الأوسط ان يتخيل إمكانية حصولها، حيث ستنفجر المنطقة برمتها، وسيصبح النظام الدولي كله مهدداً، وسيعود الشرق برمته الى أجواء السبعينيات، واجواء تفجير السفارات وخطف الطائرات والاغتيالات التي ستشمل كل من له علاقة بترامب ونتنياهو، أو الى أجواء المُسيرات والصواريخ التي تضرب مصافي النفط والمصالح الغربية، وستطلق عقال الجماعات المسلحة، وسيصبح الخليج والشرق الأوسط ساحة حرب، وستنقسم ولاءات شعوب المنطقة وستتسع دائرة النزاع وتسود المنطقة أجواء من الهستيريا التي لا يعرف أحد الى اين تقودنا.
ومن اقوى المؤشرات على ذلك حدثان مهمان مصدرهما العراق. الأول هو بيان صادر عن مرجعية النجف يستشعر تلك المخاطر المحتملة، والمؤشر الثاني هو صلاة الجمعة التي شارك بها مناصرو التيار الصدري، ونافست من حيث الكثافة تلك التي حصلت في طهران نفسها.
صدور بيان جديد عن مرجعية النجف تطور لافت في الحرب الجارية. فقد كرر البيان الصادر عن مكتب السيد علي السيستاني ادانة المرجعية للعدوان على إيران كما دان(التهديد باستهداف القيادات الدينية والسياسية العليا) والمقصود هو تلويح الإسرائيليين والامريكيين باستهداف السيد الخامنئي شخصياً. يعد هذا البيان من البيانات القوية والنارية والحازمة حسب معايير خطاب النجف الذي يميل في العادة الى الهدوء والاعتدال. فقد وصف البيان ذلك التلويح بأنه (خطوة إجرامية) وحذر من (عواقب بالغة السوء في أوضاع المنطقة برمتها) وهذا يعني ان المنطقة كلها قد تصبح على كف عفريت إذا ما ارتكب الإسرائيليون او الامريكان مثل هذه الخطوة، وحذر البيان من ان يقود اغتيال السيد الخامنئي (الى الخروج عن السيطرة وحدوث فوضى عارمة) في إشارة الى ان المرجعية لن تصبح قادرة على ضبط غضب شيعة العالم لو تم ارتكاب حماقة الاعتداء على السيد الخامنئي. وهذا العبارة تستبطن تحذيراً قوي اللهجة لمن يريد التورط بارتكاب مثل تلك الحماقة التي لن يكون أثرها منحصراً في إيران وحدها بل في كل دولالمنطقة.
ارتكاب حماقة من هذا النوع سيشعل حرباً دينية، ستشظى لتطال الجميع بما فيهم أولئك الذين يعتقدون انهم خارج دائرة الصراع الآن. لن يخسر الخامنئي شيئاً باغتياله، بل أظنه سيكون سعيداً إذا لحق بمواكب الشهداء، لكن المنطقة ستخسر استقرارها لوقت طويل.