تعكس أبيات المتنبي التالية أهمية الرؤية الكبيرة والعزم لدى القادة (( الملوك الفلاسفة) ) , وكيف أنهم لا ينشغلون بصغائر الأمور: (( على قدرِ أهلِ العزمِ تأتي العزائمُ ** وتأتي على قدرِ الكرامِ المكارمُ , وتكبرُ في عينِ الصغيرِ صغارُها ** وتصغرُ في عينِ العظيمِ العظائمُ )) , متى تطيب الدنيا إذن؟ تطيب حين ندرك أن القوة بدون حكمة هي طغيان , وأن الحكمة بدون قوة هي عجز , تطيب عندما يتلاقى العرش بالفكر , وتُضاء دروب الحكم بنور البصيرة , تلك هي الدنيا التي نطمح إليها , دنيا لا تكون مجرد مكان نعيش فيه , بل فضاءً ننمو فيه ونزدهر كبشر.
حين تتجلى الحكمة في سدة الحكم , تكون الدنيا أجمل , سئل أحد الحكماء: متى تطيب الدنيا ؟ قال: إذا تفلسف ملوكها وملك فلاسفتها , هذا القول المأثور يحمل في طياته رؤية عميقة لمجتمع مثالي , حيث لا ينفصل الحكم عن الحكمة , ولا تتخلى الفلسفة عن سدّة القيادة , إنه دعوة لتزاوج العقل والتدبر مع السلطة والقوة , لنصل إلى دنيا أكثر عدلاً ورخاءً واستنارة , فالملوك الفلاسفة بصيرة تقود , لا قوة تجبر , وعندما (( يتفلسف ملوكها )) , فإننا نتحدث عن قادة لا يستندون في قراراتهم إلى مجرد القوة الغاشمة أو المصالح الضيقة , بل يستمدون رؤيتهم من فكر عميق , ومن فهم واسع للطبيعة البشرية والمجتمعات , الملك الفيلسوف هو من يدرك أن الحكم ليس غاية , بل وسيلة لتحقيق الخير العام , إنه يمتلك بصيرة تمكنه من رؤية ما وراء اللحظة الراهنة , والتفكير في الأجيال القادمة , وفي مصلحة الإنسانية جمعاء , تشير أبيات زهير بن أبي سلمى المنتقاة من معلقته , عن أهمية الحلم والتدبر) , الى أهمية الحكمة في تجنب المهالك وسوء التقدير, وهي صفات أساسية في (( الملك الفيلسوف )) : (( وَمَن يَغْتَرِبْ يَحْسَبْ عَدُوّاً صَدِيقَهُ ** وَمَن لَم يُكَرِّمْ نَفْسَهُ لاَ يُكَرَّمِ , وَمَنْ يَعْصِ أَطْرَافَ الزِّجَاجِ بِرَأْيِهِ ** يُقَلِّبْ إِلَى نَفْسِهِ أَيَّ مَقْلَبِ )) .
أما الجزء الثاني من القول , (( وملك فلاسفتها )) , فيشير إلى ضرورة أن يتولى أصحاب الفكر والحكمة زمام الأمور, أو على الأقل أن يكون لهم تأثير مباشر على صناعة القرار, الفيلسوف الذي يُصبح ملكًا ليس بالضرورة أن يحمل لقب (( ملك )) , بل هو كل من يمتلك عمق التفكير والقدرة على التحليل والنظر النقدي , ويُسهم بفاعلية في توجيه دفة المجتمع فعندما (( يملك الفلاسفة )) , فإن الحكمة هي التي تحكم , لا الأهواء الشخصية أو المصالح الذاتية. تكون القرارات مبنية على أسس منطقية وأخلاقية , وليس على الانفعالات أو الرغبات الآنية , هذا يعني أن يتم تقدير العقل والعلم والمعرفة , وأن يكون هناك احترام للتفكير النقدي والبحث عن الحقيقة, المجتمع الذي يحكمه الفلاسفة , أو يتأثر بحكمتهم , هو مجتمع يزدهر فيه الفن والثقافة , وتُقدّر فيه القيم الإنسانية العليا.
إن الجمع بين هذين النصفين من القول هو ما يخلق )) الدنيا الطيبة )) , والتوازن المنشود دنيا تنتظرنا , فليس المطلوب أن يصبح كل حاكم فيلسوفًا بالمعنى الأكاديمي , ولا أن يتولى الفلاسفة الحكم بشكل مباشر, بل المطلوب هو أن تتشبع سدة الحكم بروح الفلسفة : البحث عن الحقيقة , التفكير النقدي , الرؤية الشاملة , والالتزام بالقيم الأخلاقية , وفي المقابل , أن يكون للفلاسفة والمفكرين صوت مسموع وتأثير حقيقي في توجيه دفة المجتمعات , ففي عالم يواجه تحديات معقدة من التغير المناخي إلى الصراعات السياسية والاقتصادية , تبدو هذه الرؤية أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى , نحتاج إلى قادة يجمعون بين الكفاءة الإدارية والعمق الفكري , وإلى مجتمعات تولي أهمية قصوى للعقل والحكمة في جميع مجالات الحياة .
الفلاسفة ملوك , حكمة تحكم لا هوى يحكم , ان هذا النوع من الملوك لا يخشى السؤال والنقد, بل يعتبرهما أدوات لتحسين الحكم , يبحث عن المعرفة في كل مكان , ويستمع إلى الأصوات المختلفة , ويوازن بين المصالح المتعارضة بحكمة وروية , إن حكمه ليس استبدادًا , بل شراكة يسعى فيها إلى رفع مستوى الوعي في مجتمعه , وتعزيز قيم العدل والحرية والكرامة الإنسانية , هو قائد يُلهم لا يُجبر , ويُعلّم لا يُملي , ويُبني لا يُهدم .
يالها من نظرة ثاقبة في حكمة بالغة.