أستراتيجية وادارة الازمات.
———
في خضم التصعيد المحتدم بين إسرائيل وإيران تبرز فرضية استراتيجية تتجاوز المشهد العسكري الظاهر، وتتعلق بما يمكن تسميته بـ”هندسة الإخضاع الجيوسياسي” حيث لم تعد الغاية من الضربات والهجمات المتبادلة مجرد الردع أو الدفاع بل بات الهدف هو إعادة إنتاج موقع إيران داخل النظام الدولي، وإعادتها قسرًا إلى الفلك الغربي ولكن عبر أدوات خشنة هذه المرة لا ناعمة.
المعادلة الجديدة التي ترسمها واشنطن وتنفذها تل أبيب بحرفية تقوم على أساس شلّ منظومة الردع الإيرانية — لا لإشعال حرب شاملة — بل لفرض لحظة تفاوضية حتمية في ظل اختلالٍ جذري في ميزان القوة لصالح الغرب. وقد تم تفريغ الحقل الإقليمي من أوراق إيران الكبرى وتم تحييد عمقها الجيوسياسي في المنطقة، لتُركّز المعركة الآن على الداخل الإيراني ذاته: مواقعه النووية، مؤسساته الحاكمة، وقمة هرمه السياسي.
هنا تبرز استراتيجية “الضغط المركّب”: مزيج بين الاستنزاف العسكري والإرهاق الأمني والتشظية النفسية لمنظومة القيادة في طهران. هذه ليست مجرد عمليات انتقامية بل نمذجة مدروسة تهدف إلى تقويض إرادة الاستمرار في التحدي. لقد باتت إسرائيل أداة اختبار حية لمدى قدرة إيران على المناورة من دون حلفاء ومن دون حماية جغرافية، وفي ظل بيئة إقليمية باتت تميل إلى البراغماتية لا الأيديولوجيا.
لكن السؤال الاستراتيجي الأعمق ليس: “هل تستطيع إسرائيل تدمير المنشآت النووية الإيرانية؟”
بل: “هل يمكن لإيران أن تستمر كنظام متمرّد دون أن تتغير بنيته الداخلية؟”
هذا هو جوهر الضغط الأمريكي – الإسرائيلي: تفكيك مشروع الثورة الإسلامية بوصفه تهديدًا دائمًا للهيمنة الغربية في الإقليم وعليه فإن استهداف المفاعل النووي ليس مجرد نزع قدرة تقنية بل رمز لنزع إرادة الاستقلال الاستراتيجي الإيراني ومحاولة لربط مستقبل البلاد مجددًا بالمركزية الغربية.
إن اغتيال المرشد – كما تشير التقديرات المتسربة ليس غاية انتقامية بل خطوة وظيفية هدفها تحطيم العمق الرمزي للنظام وإنتاج “فراغ هرمي” يمكن ملؤه عبر ترتيبات ناعمة من داخل المؤسسات السيادية لا عبر فوضى شعبية أو تدخل خارجي مباشر ما يُراد هو تغيير النظام لا إسقاط الدولة وهو فارق جوهري في منطق التفكير الأمريكي الحديث بعد تجربة العراق وأفغانستان.
تُفكّك اليوم إيران بصمت لا عبر الجيوش بل عبر منهج تفكيكي متعدد الأبعاد: العزلة، الضغط، التصعيد، الاختراقات الإلكترونية، ضربات انتقائية، وتصعيد نفسي مستمر، كلها أدوات في يد صناع القرار في واشنطن وتل أبيب، تُستخدم لضبط التوقيت المناسب للحظة الحسم السياسي لا العسكري فقط.
وما يثير الانتباه أن إيران رغم كل ما يحدث لا تزال تتحرك ضمن عقلانية استراتيجية ترفض الانفجار الكبير لكنها في الوقت نفسه ترفض الانكسار الكامل وهي بهذا تدخل في دائرة الصراع الأخطر: صراع إدارة التوقيت لا صراع امتلاك القدرة فالقدرات النووية والصاروخية وحتى السيادية تبقى أدوات ثانوية في المعركة الكبرى التي عنوانها: “هل تبقى إيران خارج المنظومة الغربية؟ أم يتم ترويضها بنسخة جديدة؟”
الخطر الحقيقي ليس في وقوع حرب بل في هندسة “اللا حرب” التي تنهك إيران حتى تتوسل الحوار أو تنفجر من الداخل. وهذا ما تراهن عليه واشنطن: أن لا تكون الحرب ضرورة بل أن يكون التفاوض استسلامًا مغلفًا ينتج نظامًا إيرانيًا جديدًا لا يشبه ما قبل المرشد .
في هذا السياق يتحوّل الصراع بين إيران وإسرائيل إلى مقياس لمستقبل الشرق الأوسط بأكمله: هل يعود إلى مدار الهيمنة الأمريكية المباشرة؟ أم يخلق توازنات جديدة أكثر تعقيدًا؟
لكن المؤكد أن المنطقة تقف اليوم على حافة لحظة حاسمة لا يُعرف فيها من يضغط الزناد لكن الجميع يترقب من ينكسر أولًا.
@إشارة