العراق بين الدولة واللا دولة: الحلقة الأولى – أرض خصبة للثورات والمليشيات

العراق بين الدولة واللا دولة: الحلقة الأولى – أرض خصبة للثورات والمليشيات

يجسد العراق صراعاً مزمناً بين طموح بناء دولة حديثة ذات سيادة وهيمنة “اللا دولة” التي تتسم بالفوضى المؤسساتية وتشتت القوى.
هذا المقال، وهو الحلقة الأولى من سلسلة تتناول هذا الصراع منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921 حتى عام 2025، يستعرض جذوره التاريخية، ويبرز تجلياته في الثورات، المليشيات، الفساد، والتدخلات الخارجية، ليكشف كيف أصبح العراق أرضاً خصبة للفوضى، مع إيحاء بإمكانية استعادة الوحدة الوطنية.

تزخر المكتبة بآلاف الكتب التي تتحدث عن الدولة ومفهومها. وتختلف تعريفاتها من زمن لآخر ومكان لآخر، أما في هذا السياق، فهي كيان سياسي يتمتع بالسيادة على إقليمه الجغرافي وحدوده ، ويدير مؤسساته كالجيش والإدارة بفعالية، ويوحد شعبه تحت هوية وطنية تخدم الجميع من خلال الدستور والقوانين واحتكار القوة الشرعية.
وفي العراق، بدأ هذا المشروع عام 1921 مع تأسيس المملكة العراقية، لكنه اصطدم بتنوع اجتماعي معقد وتدخلات دولية وإقليمية .

أما “اللا دولة” فهي حالة تفكك المؤسسات، حيث تنتشر الفوضى وتتعدد مراكز القوة كالعشائر والحركات المسلحة، ومافيات الفساد واختراق الدستور وعدم تطبيق القوانين والتدخل العنيف واستخدام قوة غير شرعية مما يُضعف السيادة.
وبلا شك فهذه الحالة نشأت في العراق من تناقضات بين الدولة المركزية وإحباطات المهمشين، معززة بهيمنة استعمارية.

حين تأسست الدولة العراقية عام 1921 تحت حكم الملك فيصل الأول وبإشراف بريطاني، كان الحلم إقامة دولة موحدة تجمع العرب، الأكراد، والأقليات. لكن هيمنة النخب السنية على النظام الملكي أثارت سخط الشيعة والأكراد، بينما قاومت العشائر الريفية سياسات فرض الضرائب ونزع السلاح. وهكذا، أصبح العراق تربة خصبة للتمرد.

ففي عام 1920، اندلعت “ثورة العشرين” بقيادة زعماء عشائر شيعية كالشيخ شعلان الخليفة، بدعم علماء الدين، احتجاجاً على الانتداب البريطاني وسياسات الدولة الناشئة. ورغم قمعها، كشفت الثورة عن قوة العشائر ككيان موازٍ يتحدى الدولة، لتصبح ركيزة مبكرة لـ”اللا دولة”. ومع ذلك، لجأت الدولة إلى الدمج، فعيّنت بعض شيوخ العشائر في مناصب إدارية أو برلمانية، مما سمح لهم بالاحتفاظ بنفوذهم المستقل. هذا التداخل والتكافل بين الدولة والعشائر خلق علاقة معقدة، تجمع بين التعاون والتحدي، فغذّى الفوضى بدلاً من كبحها.

مع تقدم النظام الملكي في الثلاثينيات والأربعينيات، برزت حركات معارضة كالحزب الشيوعي والتيارات القومية، مستغلة السخط من الهيمنة البريطانية والتفاوت الاقتصادي. هذه الحركات نظمت احتجاجات، وأحياناً أعمالاً مسلحة، كما في انتفاضة مايس 1941 بقيادة رشيد عالي الكيلاني، التي حاولت قلب النظام بدعم ألماني. ورغم فشلها، إلا أنها أظهرت هشاشة الدولة أمام قوى غير رسمية تتغذى على دعم خارجي.

وفي هذا السياق، تشكلت علاقة متداخلة تكافلية بين الدولة وهذه القوى. فقد حاول النظام استيعاب بعض قادة المعارضة عبر منحهم مناصب أو امتيازات، لكنهم استمروا في حشد أنصارهم خارج الأطر الرسمية، مما عزز نفوذ “اللا دولة” داخل أروقة الدولة. هذا التشابك جعل الدولة، في بعض الأحيان، أداة لتكريس الفوضى بدلاً من القضاء عليها.

كانت العشائر العامل الأقوى في صيغة “اللا دولة”. في الجنوب والفرات الأوسط، امتلكت قوة اجتماعية وعسكرية فاقت أحياناً قدرات الجيش الناشئ. فعلى سبيل المثال، في الأربعينيات، قاومت عشائر الفرات الأوسط محاولات نزع السلاح، مما أجبر الدولة على التفاوض مع شيوخها. هذا التفاوض عكس علاقة تعاون وتنافس، إذ استفادت الدولة من دعم العشائر لتثبيت سلطتها في الريف، بينما احتفظت العشائر باستقلاليتها، مما غذى الفوضى المؤسساتية.

وفي الوقت ذاته، بدأت تتشكل نواة المليشيات مع صعود الحركات الأيديولوجية. فالحزب الشيوعي، مثلاً، نظّم مجموعات صغيرة لحماية أنصاره وتنظيم الاحتجاجات في المناطق الفقيرة. وإن لم تكن هذه المجموعات مليشيات بالمعنى الكامل، فقد أرست أسس ثقافة القوى المسلحة غير الرسمية التي ستتوسع لاحقاً.

واجهت الدولة عقبات جوهرية جعلتها عرضة لـ”اللا دولة”.
أولاً، أضعف اعتمادها على بريطانيا في بناء الجيش والاقتصاد شرعيتها، إذ رأى الكثيرون في النظام الملكي ذراعاً استعمارية.
ثانياً، عجزت عن صياغة هوية وطنية تجمع السنة، الشيعة، والأكراد، فتفاقمت التوترات الطائفية والعرقية.
وثالثاً، أدى ضعف الخدمات والبنية التحتية إلى إحباط شعبي، جعل الثورات والحركات المسلحة صوتاً للسخط.

الخلاصة منذ تأسيسها (الدولة العراقية) عام 1921 وحتى منتصف القرن العشرين، كان العراق أرضاً خصبة للثورات والمليشيات بسبب تنوعه الاجتماعي، وتدخلات القوى الاستعمارية، وضعف مؤسسات الدولة الناشئة. أما العشائر والحركات السياسية المسلحة فقد شكلت ركائز “اللا دولة”، التي تشابكت مع الدولة عبر دمج زعمائها في المؤسسات، بينما حافظت على نفوذها الموازي. وهذه الديناميكية أرست أسس صراع سيتصاعد في العقود اللاحقة. في الحلقة القادمة، سنستعرض كيف تطورت هذه التوترات في ظل الجمهورية الأولى (1958-1968)، مع صعود الانقلابات العسكرية والأحزاب الأيديولوجية، لتُعمق حالة “اللا دولة” في مواجهة محاولات بناء دولة مركزية.