لا شك في أهمية أي نقاش يثار حول المسائل الأدبية والثقافية أو تأريخ الأدب، لأن الأخذ والرد في هذه المسائل يُسهم في إغناء المتلقي بالكثير من الآراء ووجهات النظر حول قضية النقاش من جهة، ويعود بنتائج ايجابية على الساحة الأدبية العراقية بشكل عام ويُعيد تحريك مجاريها الراكدة من جهة ثانية.
وفي هذا الإطار تأتي هذه التعقيبات والملاحظات التي اسجلها حول ما طرحه الكاتب والشاعر علي وجيه في سلسلة حلقات تصدت لتأريخ الحركة الأدبية في العراق وعُرضت على أحد الفضائيات. في البداية أحبُ أن اثني على اختيار السيد علي وجيه كضيف في هذه السلسة نظرًا لثقافته الواسعة والمامه بكل زوايا الموضوع وامتلاكه لمعجم نقدي ممتاز في توصيف الظواهر الأدبية، فضلًا عن جرأة وحدة في وصف وتقييم التجارب الشعرية والأدبية وبطريقة نفتقدها في نقدنا المعاصر وسط شيوع ظاهرة التقريض الأدبي والمدح المنمق واجتناب النقد الفعلي للنصوص والتجارب الأدبية.
ولا حاجة للإشارة للقضايا التي اتفق بها مع طرح السيد علي وجيه وهي كثيرة ومتعددة، ولكني سأركز في هذا المقال على ما طُرِحَ في الحلقة الخامسة من السلسلة والمتعلقة بجيل الشعراء الستينين والسبعينين والصراع المفتوح حينها بين القوميين والشيوعيين وانعكاساته على الأدب العراقي. ما لفت انتباهي في الحلقات أن مشكلة السيد علي وجيه هي ذات المشكلة التي شخصها هو في الشيوعيين والقوميين وفي الثقافة العراقية بشكل عام، أعني النزعة الاقصائية والرغبة في محو كل آثر للآخر وتقزيم نتاجه والعمل على الحاق أعلى درجات الضرر المعنوي به. ما أريد الإشارة إليه من هذا الكلام هو تسليط الضوء على تقييم علي وجيه للشعر القومي العربي واختزاله بالبعثي وتقليل شأن الأخير واقتصاره على شاعر أو شاعرين بشكل مخل لا يبدو بأنه مستندٌ على معايير نقدية دقيقة.
فعلي وجيه تحدث عن الشعراء البعثيين في مقابل الشعراء الشيوعيين أو اليساريين ثم عاد لاستخدام مصطلح الشعراء القوميين، مع إعلاء شأن الفئة الأولى وعدّ تجربتها الشعرية أكثر فاعلية وجماهيرية من الشعر القومي الذي وصفه بالمؤدلجوقلل من قيمته وأثره وحصر شعراءه المبدعين بشاعر أو شاعرين وذهب للقول بأن القوميين لم يتركوا أثرًا في الأدب العراقي! ومبدئيًا من الضروري الفصل بين الاتجاه القومي العربي كفكر وأدب وتوجه وميول وبين البعث كتنظيم سياسي قومي يمثل جزءًا من التيار القومي العربي ولا يُختزل هذا التيار به . فالتوجه القومي ذو أبعاد أعمق واوسع من التوجه البعثي وقد اعتنقته شخصيات سياسية وأدبية وفكرية كثيرة، فالملك فيصل الأول مثلا قومي عربي إذ ما اعتبرنا التوجه القومي يتجسد بالاعتزاز بالهوية العربية والشعور الأصيل بالانتماء لمن ينطقون بالضاد ويحملون ثقافة أهلها وفكرهموالتفاعل بشغف مع قضاياهم وافكارهم دون أن تتمكن النزعة الاقليمية من تقييد تطلعاتهم هذه.
وكان الفكر القومي العربي قد تمدد على جغرافية واسعة فقد مَثل منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى سبعينيات القرن العشرين مُحركًا فكريًا وثقافيًا بارزًا في الساحة العربية، وفي الميدان العراقي نستطيع القول بوضوح أن الشاعر علي الشرقي كان قوميًا عربيًا وتجلى هذا التوجه في كثير من اشعاره وكتاباته السياسية وإن العين لا يمكن أن تُخطئ رؤية ميول نازك الملائكة القومية ولا تفاعلها الدؤوب مع القضايا العربية منذ بواكير تجربتها في شعر التفعيلة مع قصيدة “كوليرا” التي كتبتها متأثرة بأخبار فتك هذا الوباء بالمصريين! كما أن رائد الشعر الحر بدر شاكر السياب كان قوميًا بارزًا، ولست هنا بصدد تعداد اسماء الرواد ممن حملوا الفكر القومي وآمنوا به لكني أريد الإشارة إلى أن هذا الشعر والتوجه لم يكن هامشيًا وضئيلًا كما برز في طروحات علي وجيه.
وعلى صعيد منفصل يمكن تسجيل ملاحظة ناقدة لتقسيم الكاتب علي وجيه للشعراء كبعثيين ويساريين في حقبة السبعينيات، لأن هذا التقسيم يبدو في بعض جوانبه غير قطعي ولا نهائي ويحمل كثيرا من الالتباس رغم صحته الظاهرة. لأن الشاعر ذات مفكرة ومبدعة هو عصي على التصنيف والحصر وهو ليس ناطقًا باسم الأيديولوجيا التي يعتنقها وليس باستطاعته أن يكون المُعبر عنها في كل وقت، فإذا ما عددنا عبد الوهاب البياتي وسعدي يوسف في عداد الشيوعيين وهذا التصنيف صحيح من حيث المبدأ لكنه يثير إشكالات تتعلق بكيفية التعامل مع نتاجهم الشعري الذي يحمل بصماتٍ قومية واضحة، هل ندرجه ضمن النصوص الشيوعية! والحق أن هذه القصائد القومية عابرة للتصنيفات الأولية والتقليدية ذلك أن الفكر القومي العربي أو إن شئتَملامحهُ وتجلياتهُ تسربت للعقل الجمعي العراقي في تلك الفترة فتجد حضورًا لها عند شعراء إسلاميين ويساريين فضلا عن القوميين الذين اتخذوا هذا المبدأ كمنهج سياسي. أي إننا هُنا نسجل حضورًا للقصيدة القومية بوصفها نسقًا قائمًا بذاته ومتجاوزة لخطوط اليمين واليسار، ولتدعيم هذا الرأي أكثر أشير إلى وجود افكار قومية عند بعض الشعراء اليساريين والشيوعيين فالقومية والشيوعية ليستا فكرتين متناقضتين وجرى في بلدان كثيرة مزجهما بمنهج واحد وفعليا لاحظنا في السنوات الأخيرة لسعدي يوسف “الشيوعي الأخير” تنديده المستمر بما يُسميه “الاحتلال الفارسي للعراق” واشادته بنظام البعث في سوريا بوصفه آخر حصون الممانعة العربية!
ومن المواقف التي تمظهرت فيها انحيازات علي وجيه كما أشرنا سابقًا هو اقتصاره الشعراء البعثيين على شاعرين هما حميد سعيد وسامي مهدي متجاهلا شعراء كبار كشاذل طاقة الذي يُعد من رواد الشعر الحر في العراق وشفيق الكمالي الذي حط من شاعريتيه وجرده من كل إبداع! ومن آراءه الغربية في هذا الصدد هو رفضه نسب الشعراء اليساريين المتحولين للاتجاه القومي للاتجاه الذي استقروا عليه كعبد الرزاق عبد الواحد ويوسف الصائغ وقبلهما بدر شاكر السياب وعدّ شاعريتهم راجعة ليساريتهم السابقة وكأن الموهبة الشعرية توهب للمرء إذا ما قرر أن يكون يساريًا ويُجرد منها إذا ما كان قوميًا، ولاشك أن رأيه هنا يعد مغالطة نقدية واضحة تٌلغي دور التحولات الفكرية من حياة الشعراء والمبدعين ولكن اقراره بقومية هؤلاء سوف يعلي من شأن هذا الاتجاه أدبيًا وهو ما لا يقره ولا يرضاه.
وفي تقييم غير مفهوم يفاضل علي وجيه بين جماهيرية وانفتاح المضامين الشعرية عند الشيوعيين والقوميين فيرجح كفة الشيوعيين ويحط من شأن القوميين معتبرا أن لا شيء عندهم ليقولوه غير امتداح القائد! وهذه مغالطة سطحية لأن مقارنة الشعر الحزبي للشعراء القوميين بتعدد الاغراض الشعرية عند الشيوعيين سيأتي بنتيجة مباشرة لصالح الشيوعيين والعكس صحيح حين نقارن الشعر الشيوعي الحزبي ونضعه في مقابل انفتاح الاغراض الشعرية عند الشعراء القوميون فإننا سنجد منتجًا ابداعيًا هائلا عند القوميين يتفوق على شعر حزبي يدور حول تعليمات الحزب وتمجيد الاتحاد السوفيتي! وسارت اغلب مغالطات السيد علي وجيه على هذا المنوال وسط صمت مقدم البرنامج الذي بدت عليه ملامح الفقر الثقافي وفشل في أداء دور الراصد للآراء والناقد لها واكتفى بدور المُريد والمُعجب بل والمنبهر احيانًا بما يسمع وكأنه يسمعه لأول مرة. وتضاءلت شخصيته أمام طغيان وحضور شخصية الشاعر علي وجيه الذي أدار البرنامج وفق رؤيته الشخصية.
قصارى القول إن أفكار علي وجيه كانت ترجمة حرفية لما عبر عنه في أكثر من موضع في البرنامج من بروز السمة الاقصائية عند العراقيين فقد حاول اقصاء وتهميش الشعر القومي، رغم مركزية هذا الشعر في التاريخ العراقي الحديث ويكفي القول أنه اتجاه علي الشرقي وبدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبد الرزاق عبد الواحد وسواهم من الأعلام، وأن القصيدة القومية سجلت حضورًا لافتًا عند كثير من الشعراء غير القوميين مثل عبد الوهاب البياتي وسعدي يوسف وحتى محمد مهدي الجواهري.