خور عبد الله والعلاقات العراقية-الكويتية: قراءة في السياق التاريخي والجغرافي السياسي
تُعد قضية خور عبد الله والحدود البحرية والبرية بين العراق والكويت واحدة من الإشكاليات الجيوسياسية المعقدة في المنطقة، والتي تعكس تداخل العوامل التاريخية مع المصالح الدولية… ؛ ورغم اختلاف التفسيرات حول جذور الأزمة، فإنها تظل قضيةً وطنيةً عراقيةً بامتياز، تتجاوز الخلافات الحزبية أو المصالح الضيقة للنخب السياسية والعوائل الدينية والرموز العشائرية.
الجذور التاريخية: من اتفاقية “سايكس بيكو” إلى ترسيم الحدود
تشير الوثائق التاريخية إلى أن الكويت منطقة عراقية تابعة للبصرة العظمى ؛ إلا أن التحول الأبرز والاخطر حدث مع الاتفاقية البريطانية-العثمانية عام 1913، والتي أقرت باستقلال الكويت ككيان إداري تحت الحماية البريطانية , فقد اقتطعت بريطانيا الكويت ثم الاحواز من بلاد الرافدين بغضا منها بالأغلبية العراقية … ؛ قبل أن تُعاد صياغة الحدود بشكلٍ رسمي عام 1922 عبر “اتفاقية العقير” التي وقّعها بيرسي كوكس ممثلًا عن بريطانيا وعبد العزيز آل سعود… ؛ اذ اراد الانكليز تأسيس وسادة او دويلة لهم تكون حاجزا بين جنوب العراق الشيعي وبين السعودية ؛ كما صرح بذلك الدكتور عبد الله النفيسي ؛ فلا توجد دولة باسم الكويت مطلقا قبل المخطط البريطاني المشؤوم ؛ و هذا الترسيم -كما يرى المؤرخ حنا بطاطو في كتابه “الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية في العراق”- جاء متجاهلًا التركيبة الديموغرافية والروابط الاقتصادية بين جنوب العراق والمناطق المجاورة، مما خلق بذور التوتر المستقبلي... ؛ فالكويت عراقية الجذور والانتماء .
لذلك طالب الملك غازي ثم الزعيم عبد الكريم بها وبضرورة ارجاعها الى البلد الام , وتعالت الاصوات الوطنية المطالبة بإرجاعها بعد قرار استقلال الكويت عام 1961 ؛ حتى المجرم صدام لم يستطع التملص من هذه الحقيقة التاريخية ؛ فقد استند في استرجاعه للكويت عام 1990 إلى مفهوم “العراق التاريخي” .
العامل الخارجي: الدور البريطاني وتأثيره
لا يمكن فصل النزاع الحدودي عن الصراع على النفوذ بين القوى الدولية، فبريطانيا -بحسب كتاب “الخليج العربي في الأرشيف البريطاني” لد. سلطان بن محمد القاسمي- سعت منذ القرن التاسع عشر إلى خلق كيانات ساحلية صغيرة كالكويت وقطر لضمان هيمنتها على الممرات المائية، وهو ما أيدته وثائق وزارة الخارجية البريطانية (FO 371) عام 1932 التي تشير إلى ضرورة منع العراق من الوصول المباشر إلى الخليج للحفاظ على مصالح الشركات النفطية البريطانية.
فقد صدم الإنكليز بالعراقيين وتكبدوا الخسائر في العراق بسبب مقاومة الاغلبية العراقية وعشائر الجنوب الشيعية العربية ومن ثم ثورة العشرين وتداعياتها الخطيرة , الا انهم لم ينسوا الثأر وهم المعروفون بالخبث واللؤم والعقاب ؛ فعملوا منذ تلك الفترة والى هذه اللحظة على الحاق الضرر بالعراق والجنوب العراقي والشيعة , ومساعدة دول الجوار بالتمدد على الحدود البرية والبحرية لجنوب العراق فضلا عن نهب خيراته وثرواته , ولعل سرقات الكويت وغيرها من الحقول النفطية المشتركة من اوضح الادلة الدامغة على نتائج المخططات البريطانية الخبيثة .
السياسة الداخلية العراقية: الفساد والتبعية الخارجية
لا يمكن فهم استمرار الأزمة دون تحليل البنية السياسية الهشة للعراق ؛ فمنذ تأسيس الدولة العراقية المعاصرة عام 1921 عملت بريطانيا على جلب الاجانب والغرباء وتمكين الدخلاء من استلام الحكم في العراق ومن ثم تجنيس الاجانب والغرباء وتمكينهم من السيطرة على الدولة العراقية … ؛ ومنذ ذلك الوقت لم ير العراق خيرا وعاشت الاغلبية والامة العراقية اسوء ظروفها… ؛ اذ شرعت تلك الحكومات الطائفية الهجينة البائدة قرارات لا تصب بمصلحة العراق وتنازلت عن الأراضي الوطنية الشاسعة إلى دول الجوار بما فيها الكويت ولم تكتف الكويت بذلك ولم تقتنع بهذه التنازلات المجحفة اذ راحت تطالب وتطالب حتى وصل الأمر ببعض الحمقى بالمطالبة بالبصرة وما عشت اراك الدهر عجبا … الخ .
ولم يكن ما بعد 2003 افضل حالا من العهود البائدة فيما يخص هذا الملف الحساس ، حيث أدى نظام المحاصصة الطائفية -بحسب تقرير منظمة “ترانسبيرنسي إنترناشونال” 2022- إلى تفشي الفساد في المؤسسات المعنية بالحدود، مثل لجنة العلاقات النيابية التي اتهمها النائب السعودي الساعدي في جلسة برلمانية (2023/5/12) بـ”الانحياز لمصالح دول الجوار مقابل رشاوى”… ؛ و هذا الواقع يفسر -جزئيًا- تسرع بعض الحكومات في توقيع اتفاقياتٍ مُضرّة، كما حدث مع تصديق مجلس الوزراء على مسودة 2023 رغم اعتراضات الخبراء القانونيين.
الخلافات الحديثة: من حقل الدرة إلى ترسيم الحدود البحرية
تتصاعد حدة الأزمة اليوم حول ترسيم الحدود البحرية، لا سيما في منطقة حقل الدرة النفطي، حيث تطالب الكويت بترسيمٍ يُقسم الحقل مع السعودية بل حتى ايران طالبت بحصتها من هذه المياه الوطنية ، بينما يُصر احرار العراق على أحقيته الكاملة، مستندًا إلى اتفاقية 2012 التي لم تُنفذ بسبب الخلافات الفنية… ؛ و هنا تبرز إشكالية تراجع الحكومات العراقية المتعاقبة عن المطالبة بحقوق العراق، كما في اتفاقية 1994 التي وقّعها النظام السابق تحت ضغط العقوبات الدولية، والتي تنازل فيها عن جزءٍ من المياه الإقليمية لصالح الكويت، وفقًا لتقرير الأمم المتحدة (S/1994/512).
أما ما يتعلق بالترسيم الحالي، فقد أثارت “مسودة ترسيم الحدود” عام 2023 جدلًا واسعًا بعد إحالتها إلى الأمم المتحدة دون إقرار البرلمان العراقي، وهو إجراءٌ انتقده نائب رئيس مجلس النواب السابق الشيخ همام حمودي في تصريح لقناة “السومرية” (2023/8/10) لكونه “يتجاوز الدستور العراقي الذي يُلزم الدولة بالحفاظ على السيادة الوطنية”.
بعد عقود طويلة وسنوات عديدة من مطالبات الكويت الباطلة بضرورة ترسيم الحدود بينها وبين العراق , والتي كانت ترفض من قبل الجماهير الوطنية تارة والحكومات العراقية تارة اخرى والمنظمات والقوى الدولية ثالثة ؛ عاودت الكويت تلك المحاولات بعد عام 2003 , وساعده في ذلك الانكليز وضعف العراق وعملاء الداخل والمرتزقة المحسوبين على الاغلبية والامة العراقية … , اذ قامت بعض اللجان المتهمة بالفساد والفشل والجهل وعدم الكفاءة والنزاهة كما صرح بذلك بعض النواب ؛ بإعداد مسودة لترسيم الحدود البحرية بين الجانبين وجاء الترسيم لصالح الكويت كالعادة … ؛ والطامة الكبرى ان مجلس الوزراء سارع بالموافقة عليها وصادق على ما جاء فيها … ؛ ولم يكتف الجانب العراقي بهذه الخيانة بل ارسلت الحكومة العراقية المسودة إلى الامم المتحدة لتبقى وثيقة سياسية تاريخية تثبت حقا عراقيا للكويت ليس لها مطلقا … ؛ وبعد ان ثارت ثائرة الشعب العراقي ورفض هذا التقسيم الجائر والترسيم الباطل قامت المحكمة الاتحادية العليا بإبطال هذا القرار الجائر , وقد طالب النائب سعود الساعدي بإرسال هذا القرار العراقي الوطني إلى الامم المتحدة الا ان الحكومة العراقية لم ترسله … , ومن أعجب العجائب ان تسارع الحكومة العراقية بإرسال مسودة العار والخيانة بينما ترفض إرسال مسودة قرار رفض المحكمة الاتحادية , بل الادهى والأمر ان وزير الخارجية الحالي ورئيس الوزراء السيد محمد السوداني يطالبان المحكمة الاتحادية بمراجعة القرار اي ابطاله… !!
وعليه يجب على العراقيين كافة , المطالبة بضرورة ابطال كافة المعاهدات والاتفاقيات الجائرة مع الكويت , والالتزام بقرار المحكمة الاتحادية العليا , و بناءً على قرار المحكمة الاتحادية العليا العراقية رقم (41) لسنة 2023، والذي أبطالَ “اتفاقية خور عبد الله” المُبرمة عام 2012، نؤكد على المطالبة التالية :
أولًا: الشرعية الدستورية فوق الاتفاقيات المُشبوهة :
– تنص المادة (13) من الدستور العراقي على أن “تُعدُّ الاتفاقيات والمعاهدات الدولية جزءًا من القانون الوطني العراقي”، لكن المادة (61/رابعًا) تُلزم البرلمان بالمصادقة عليها لتصبح نافذة… ؛ وبما أن الاتفاقية المذكورة لم تُعرض على البرلمان، فهي باطلة دستوريًا، وهو ما أكدته المحكمة الاتحادية.
– وفقًا لتقرير خبراء القانون الدولي في “معهد الدراسات الاستراتيجية” (2021)، فإن أي ترسيم حدودي لا يراعي مبدأ “العدالة الجغرافية” و”الحقوق التاريخية” يُعتبر مُنتهكًا لاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار (UNCLOS 1982)، خاصة المادة (15) التي تحظر الترسيم الأحادي.
ثانيًا: ثروات الجنوب وحقوق الأجيال :
– منطقة خور عبد الله ليست مجرد ممر مائي، بل هي:
- المنفذ الاستراتيجي الوحيد للعراق على الخليج، بطول 58 كم فقط، مقارنةً بـ499 كم للكويت (وفقًا لبيانات “منظمة الهيدروغرافيا الدولية”، 2020).
- مصدر ثروات طبيعية، مثل حقل الدرة النفطي المُقدر احتياطيه بـ100 مليون برميل، والذي تتنازع عليه الكويت والسعودية والعراق (تقرير “وورلد إنرجي آوتلوك”، 2023).
- مورد رزق للصيادين العراقيين، حيث تؤكد منظمة “الفاو” أن 70% من الثروة السمكية في جنوب العراق تعتمد على هذه المنطقة.
ثالثًا: فساد الاتفاقية ومخاطر التطبيع مع الخيانة :
– كشفت تحقيقات صحفية (مثل تحقيق قناة “العربية” 2021) عن تورط شخصيات في اللجنة العراقية المفاوِضة بقضايا فساد مالي، مما يطرح تساؤلات حول شرعية التفاوض تحت تأثير الرشاوى، وهو ما ينتهك المادة (20) من “اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد” (2005).
– لم تُشرك الحكومات المتعاقبة خبراء متخصصين في القانون الدولي أو الجغرافيا السياسية في المفاوضات، بل اعتمدت على “لجان سياسية” مُحاصصاتية، وفقًا لشهادة النائب علي الدباغ في جلسة البرلمان (2022/6/10).
رابعًا: المطالب العاجلة :
- إلغاء اتفاقية خور عبد الله نهائيًا، واعتماد ترسيم جديد وفقًا للمبادئ التالية:
– قرار المحكمة الاتحادية العليا.
– تقارير الخبراء المحايدين (كالمسح الجيولوجي الأمريكي USGS 2018 الذي حدد حقوق العراق في الحقول المشتركة).
– مبدأ “المنصفية” في تقسيم الموارد، كما طُبق في النزاع النرويجي-الروسي حول بحر بارنتس (2010).
- محاسبة الفاسدين عبر تشكيل لجنة برلمانية مستقلة بالتعاون مع منظمات دولية (كمنظمة الشفافية الدولية)، لمراجعة كل الاتفاقيات الموقعة منذ 2003.
- حملة دولية لإعادة الملف إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن، مع الاستناد إلى القرارات السابقة (مثل القرار 833 لعام 1993) التي أكدت على ضرورة مراعاة حقوق العراق البحرية.
- توعية الرأي العام عبر إطلاق منصة إلكترونية تُوثق الانتهاكات الكويتية، كما فعلت مصر في نزاعها مع إثيوبيا حول سد النهضة.
5- إعادة تفعيل الملف قانونيًا عبر المحكمة الدولية لقانون البحار (ITLOS)، مع الاستناد إلى اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار (UNCLOS 1982).
6- إشراك خبراء محايدين في ترسيم الحدود، كما حدث في النزاع الحدودي بين قطر والبحرين عام 2001.
7- كسر احتكار النخب السياسية للقرار السيادي عبر استفتاء شعبي، كما ينص الدستور العراقي في المادة (58).
خاتمة:
العراق ليس أرضًا بلا ذاكرة، فخور عبد الله جزء من تاريخه وجغرافيته… ؛ والعدالة ليست مطالبَ فئوية، بل حقٌ دستوريٌ ودوليٌ تُكفله المواثيق. لن نسمح بتحويل جنوب العراق إلى ساحةٍ لصفقات الفاسدين، ولن نقبل بتوريث أبنائنا حرمانًا من مواردهم.
وإن استمرار التوتر في خور عبد الله ليس مجرد نزاعٍ حدودي، بل هو اختبارٌ لإرادة العراق في بناء دولة المواطنة بعيدًا عن التأثيرات الخارجية والصراعات الداخلية العبثية ؛ وهذا يتطلب إعادة الاعتبار للسياسة الخارجية العراقية كسياسة وطنية لا حزبية، عبر آلياتٍ واضحة .
……………………….
المصادر :
1- حنا بطاطو، *الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية في العراق*، دار الطليعة، 1990.
2- وثائق الأرشيف العثماني، سجلات ولاية البصرة، 1785-1914.
3- تقرير الأمم المتحدة S/1994/512 حول ترسيم الحدود العراقية-الكويتية.
4- فاضل الربيعي، *العراق والكويت: الصراع على التاريخ*، مركز دراسات الوحدة العربية، 2002.
5- تصريح النائب السعودي الساعدي، جلسة البرلمان العراقي، مايو 2023 (مصدر مرئي: قناة العراقية).
6- الدستور العراقي (2005)، المادتان (13) و(61).
7- تقرير معهد الدراسات الاستراتيجية (2021): *الترسيم البحري بين العراق والكويت*.
8- وثيقة الأمم المتحدة UNCLOS (1982)، المادة (15).
9- تصريح النائب علي الدباغ، الجلسة البرلمانية العراقية، يونيو 2022.
10- تحقيق قناة “العربية” (2021): *فساد حدودي: خور عبد الله أنموذجًا*.