دولة مواطنة لا دولة مكونات

دولة مواطنة لا دولة مكونات

في ظلّ التحديات التي تواجهها الدول المتعددة الأعراق والطوائف، يبرز سؤال محوري: هل يمكن بناء دولة عادلة ومستقرة على أسس الانتماء القَبَلي أو الطائفي أو القومي، أم أن السبيل الأمثل يكمن في ترسيخ مبدأ المواطنة؟ لقد أثبتت التجارب الحديثة أن الأنظمة التي تُدار على أساس “المكوّنات” تفتح الباب أمام المحاصصة والتمييز، وتُقوّض مفهوم الانتماء الوطني الجامع. في المقابل، تُمثّل “دولة المواطنة” النموذج الأمثل لبناء مجتمع متماسك، يتساوى فيه الأفراد في الحقوق والواجبات بصرف النظر عن خلفياتهم الدينية أو العرقية أو المذهبية. هذا المقال يناقش الفروقات الجوهرية بين “دولة المكوّنات” و”دولة المواطنة”، ويستعرض آثار كل منهما على وحدة الدولة واستقرارها، مع التأكيد على أهمية الانتقال من منطق التقسيم إلى منطق التشارك الوطني الحقيقي.
1.المفهوم بين الدولة والمكوّن في جوهره، مفهوم “دولة المكوّنات” يُفترض أن يكون حلاً لضمان التمثيل المتوازن بين مكوّنات المجتمع المختلفة، لكنه في الواقع يكرّس الانقسام ويحوّل الهوية الوطنية إلى هويات فرعية متنازعة. فعندما يُختزل الفرد إلى مذهبه أو قوميته، يفقد المواطن إحساسه بالانتماء العام، ويتحوّل الوطن إلى ساحة صراع بين حصص وأوزان. هذا النموذج، وإن بدا عادلاً ظاهريًا، يفرز مؤسسات هشة، تخضع للمساومات لا للكفاءة، وللولاء للمذهب لا للوطن. وهذا سيؤدي بالتالي إلى إضعاف الانتماء للوطن؛ عندما يشعر المواطن أن الدولة لا تحميه بصفته مواطنًا بل تصنفه حسب خلفيته، يتراجع شعوره بالانتماء للوطن. الأمر الذي يساعد على الهجرة الجماعية للكفاءات إلى دول تضمن لهم حقوقهم كمواطنين دون تمييز، بمعنى “نزيف العقول” وفقدان الثقة بالدولة. ومن سيئات نظام المحاصصة الطائفية أو القبلية بدلاً من تعيين الكفاءات، يتم توزيع المناصب على أساس طائفي أو قبلي. مما يعني تتقاسم المناصب العليا بين طوائف معينة وفق اتفاقات سياسية، وليس وفقًا للكفاءة أو الانتماء الوطني. أي أنه يضعف أداء مؤسسات الدولة وغياب الكفاءة، مما يؤدي إلى فساد إداري وتعطل التنمية.
2. تقوم دولة المواطنة على مبدأ أساسي: أن جميع المواطنين سواسية أمام القانون، وأن الانتماء الوطني يتقدّم على كل انتماء آخر. في هذا النموذج، لا يُسأل الفرد عن دينه أو قوميته، بل عن مدى التزامه بالقانون ومشاركته في بناء الوطن. دولة المواطنة لا تلغي التنوّع، لكنها تضعه ضمن إطار مدني يحترم الجميع دون تمييز. وقد أثبتت التجارب التاريخية أن الدول التي اعتمدت هذا النهج نجحت في تحقيق الاستقرار والنمو، بينما غرقت الدول الطائفية في الفساد والانقسام.
3. آثار دولة المكونات على الواقع السياسي: المحاصصة الطائفية والقومية تنتج برلمانات مشلولة، وحكومات غير منتجة، حيث تُبنى القرارات على الترضيات لا على المصلحة العامة. كما تُضعف هذه البنية ثقة المواطن بالدولة، فيبحث عن الحماية في جماعته بدل القانون. هذه الحالة تفرز زعامات طائفية تتعامل مع الدولة كمكاسب لا كمؤسسة جامعة. بل إن بعض القوى تستثمر في استمرار الانقسام لضمان بقائها، مما يجعل الخروج من دائرة دولة المكوّنات أمرًا مصيريًا لا مجرد خيار سياسي. النظام الذي يقوم على أساس المكونات، يعني التمييز وعدم المساواة؛ عندما يتم التعامل مع الأفراد بحسب دينهم أو طائفتهم أو قبيلتهم أو عرقهم. مثلاً في بعض الدول، لا يُسمح لأتباع طائفة معينة بتولي مناصب حكومية عليا فقط بسبب انتمائهم الديني أو العرقي، بغض النظر عن كفاءتهم. حين ذاك يحس المواطنون بالظلم، مما يضعف الثقة في الدولة.
4. نحو عقد اجتماعي جديد؛ التحول من دولة المكونات إلى دولة المواطنة يتطلب إرادة سياسية وشجاعة مجتمعية، تبدأ بصياغة عقد اجتماعي جديد يكرّس مبدأ المواطنة المتساوية، ويضع الدستور فوق الولاءات الفرعية. لأن عكس ذلك يكرس الانقسامات الطائفية أو القبلية؛ وينتج ذلك بتحول الانتماء للطائفة أو القبيلة إلى هوية سياسية واجتماعية أقوى من الهوية الوطنية. وهناك أمثلة عديدة على دول تشهد صراعات داخلية دموية بين جماعات دينية أو عرقية متناحرة، لأن كل جماعة تشعر بأنها مستهدفة أو مهمشة. وبالتالي يؤدي هذا إلى تفتت وحدة المجتمع، وتزايد النزاعات الأهلية. وتزايد مظاهر العنف والتطرف؛ وذلك عندما يشعر الناس بالتمييز والقهر، قد يتحول الإحساس بالظلم إلى عنف أو تطرف ديني أو عرقي. فتظهر جماعات مسلحة تدعي الدفاع عن طوائف أو أقليات مضطهدة. والنتيجة تهديد الأمن الداخلي، وتعطيل الحياة السياسية والاجتماعية. لا يمكن لهذا التحوّل أن يتم دون إصلاح دستوري، وتطوير منظومة التعليم، وبناء ثقافة مدنية تكرّس احترام التنوع ضمن إطار وطني مشترك. كما يتطلب الأمر مؤسسات قوية محايدة، قادرة على فرض القانون بشكل عادل.
وبما أن نظام الحكم في الدولة العراقية يقوم على أساس المكونات وليس على المواطنة علماً أن ذلك غير مثبت دستورياً أنما صار عرفاً، فهل يمكن قيام نظام حكم في العراق بعيد عن نظام المكونات الحالي وفي ظل ديمقراطية حقيقية؟ العراق اليوم يعاني مما يمكن تسميته “محاصصة مكوناتية”، حيث يُوزَّع النفوذ السياسي على أساس الانتماءات الطائفية والقومية بدلًا من الانتماء الوطني والكفاءة. وهذا أدى إلى ضعف الدولة، وتفشي الفساد، وشلل مؤسساتي.
ما هو السبيل لتجاوز هذا النظام نحو ديمقراطية حقيقية؟، هناك خطوات أساسية مطلوبة يمكن ايجازها بما يلي: يجب صياغة دستور جديد أو تعديل الدستور الحالي بطريقة تلغي أي إشارات مباشرة أو غير مباشرة إلى المحاصصة العرقية أو الطائفية. تثبيت مبدأ “المواطنة” كأساس وحيد للحقوق والواجبات. النظام يجب أن يكون مدنيًا، بمعنى أن الدين أو الطائفة أو القومية لا تكون معايير للوصول إلى السلطة. التركيز على حقوق الإنسان، سيادة القانون، وحرية الرأي. سن قانون انتخابي يعتمد الدوائر الفردية أو القوائم العابرة للطوائف، لا القوائم المغلقة أو القوائم التي تمثل مكونات معينة. تشجيع الأحزاب العابرة للطوائف والقوميات، أي أحزاب وطنية برامجية، لا هوياتية. إصلاح التعليم والإعلام لتعزيز قيم المواطنة، والمساواة، والديمقراطية. محاربة خطاب الكراهية والانقسام الطائفي. بناء مؤسسات دولة قوية ومحايدة. القضاء، الجيش، الشرطة، ومؤسسات الدولة يجب أن تكون مستقلة تمامًا وغير خاضعة لأي ولاء غير ولاء الدولة والقانون. أي اختراق من قبل جهات دينية أو قومية يجب أن يُعالج بصرامة. تحقيق عدالة انتقالية حقيقية، بمعالجة المظالم التاريخية بشكل عادل وشفافية. محاسبة الفاسدين والمجرمين بعيدًا عن أي تمييز طائفي أو قومي. وجود نخبة سياسية جديدة شابة غير متورطة بالفساد أو الطائفية. دعم دولي لفكرة العراق الموحد القائم على المواطنة، لا المحاصصة. تحسين الوضع الاقتصادي، لأن الفقر والتهميش يُستخدمان غالبًا لتغذية الطائفية.
أن بناء ديمقراطية حقيقية في العراق يتطلب فصل الهوية الدينية/القومية عن الهوية الوطنية، وإعلاء قيمة المواطنة والكفاءة فوق كل اعتبار. لن يحدث هذا بين ليلة وضحاها، بل عبر مسار طويل من الإصلاح، والوعي الشعبي، والإرادة السياسية. لا تُمنح الحقوق أو تُفرض الواجبات على أساس الدين أو الطائفة أو الأصل العرقي أو الانتماء القبلي أو أي انتماء آخر غير الانتماء للوطن بصفته رابطة قانونية ومدنية. كل المواطنين سواسية أمام القانون. والهوية الوطنية هي الرابط الأساسي بين الدولة والفرد، وليست أي هوية فرعية أخرى. تقوم الدولة على مبدأ العدالة والمساواة وتتعامل مع أفرادها كمواطنين لا كأعضاء في جماعات متميزة.
في نظام يقوم على مبدأ المواطنة، لا يجوز التمييز بين شخص وآخر في التوظيف أو التعليم أو العلاج أو ممارسة الحقوق السياسية بناءً على دينه أو قبيلته أو عرقه؛ فقط كونه مواطناً يكفي لتمتعه بكامل حقوقه، مع التزامه أيضاً بجميع واجباته تجاه الدولة. أن تثبيت مبدأ المواطنة كأساس وحيد للحقوق والواجبات يُعتبر محورياً لبناء الدول الحديثة للأسباب التالية:
تحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية؛ عندما تكون المواطنة هي المعيار الوحيد، يشعر جميع الأفراد بأنهم متساوون أمام القانون، ما يعزز الإحساس بالعدالة والانتماء، ويقلل من الإحساس بالظلم والتمييز. تعزيز الانتماء الوطني؛ بدلاً من أن يعرّف الإنسان نفسه من خلال طائفته أو قبيلته أو عرقه فقط، يصبح انتماؤه الأساسي للوطن والدولة، مما يقوي الوحدة الوطنية ويحد من النزاعات الطائفية أو القبلية أو العرقية.
ترسيخ دولة القانون والمؤسسات، حيث أن الدول الحديثة تبنى على قاعدة أن الجميع يخضعون للقانون نفسه، وليس هناك فئات محمية أو مميزة، وهو ما يجعل الدولة مستقرة وقادرة على إدارة شؤونها بشكل عادل ومنظم.
تشجيع المشاركة السياسية والمدنية، فعندما يشعر المواطنون أن حقوقهم مصونة دون تمييز، يزداد انخراطهم في الحياة السياسية والمدنية، مثل التصويت والمشاركة في الانتخابات والعمل العام، مما يؤدي إلى حياة ديمقراطية أكثر حيوية.
دفع عجلة التنمية والتقدم؛ التمييز يضيع طاقات الشعوب ويهمش شرائح كبيرة منها. أما عندما تُبنى الحقوق والفرص على أساس المواطنة والكفاءة فقط، فإن جميع الكفاءات تُستثمر لخدمة الوطن، مما يدفع عجلة التقدم والابتكار.
الحد من الفتن والنزاعات، ففي المجتمعات التي تُبنى على المواطنة، تقل النزاعات ذات الطابع الديني أو العرقي أو المناطقي، لأن الجميع يتشاركون نفس الحقوق والواجبات، ولا يشعر أي طرف بأنه مستبعد أو مظلوم.
خلاصة القول: مبدأ المواطنة هو حجر الأساس لبناء دولة مدنية حديثة، قوية، عادلة، مزدهرة، ومستقرة سياسيًا واجتماعيًا. وذلك عندما يكرس الدستور مبدأ المساواة بين المواطنين كمبدأ أساسي، رغم التنوع الاجتماعي والديني داخل الدولة. وفي المقابل وعندما لا يتم احترام مبدأ المواطنة كأساس وحيد للحقوق والواجبات، تظهر مشاكل خطيرة تهدد استقرار المجتمع والدولة. أن غياب مبدأ المواطنة لا يؤدي فقط إلى الظلم الاجتماعي، بل يهدد وجود الدولة نفسها، إذ يجعلها عرضة للتفكك والصراعات. لهذا السبب، تحرص الدول الحديثة الواعية على ترسيخ المواطنة كأساس أوحد، ضمانًا للسلام الداخلي، والتنمية، والاستقرار. والاختيار بين دولة المكوّنات ودولة المواطنة ليس مجرد تفضيل فكري، بل هو خيار وجودي يتعلق بمصير الأوطان. وإذا أرادت شعوبنا الخروج من دوّامة الفوضى والفساد والانقسام، فعليها أن تتبنّى مشروع الدولة المدنية العادلة، حيث يكون الانتماء للوطن، لا للطائفة، هو المعيار الأعلى. المواطنة ليست شعارًا، بل حجر الأساس لأي نهضة حقيقية.

أحدث المقالات

أحدث المقالات