منذ أسبوع كتبنا مقالا بعنوان ، “متى تطرح خطة السلام الأميركية على الطاولة ” ، تساءلت فيه عن الوقت الذي سيطرح فيه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ، خارطة الطريق للسلام في الأزمة الأوكرانية ، والتي يريد بها الرئيس الأمريكي ، من موسكو وكييف الموافقة عليها ، ولا حتى طرح أي مسودة أولية لهذه الخطة ، فمن خلالها يمكن مناقشتها ، وحتما ستساعد على فهم ما إذا كان حل النزاع ممكنًا وفي أي مرحلة يتم ذلك .. لكننا ترددنا في نشرها مباشرة ، لأن هناك شيء في داخلنا ، يدفعنا لانتظار حدث جديد في هذا الملف الشائك قد يطرأ في أي لحظة.
وكما هو معروف ، فإن رسم خريطة الطريق ، من شأنه أن يساعد على فهم كلمات ترامب بشكل أفضل، وهو الذي يصرح بشكل دوري بأنه كان لديه اتصالات “جيدة” مع موسكو وكييف ، بعد كل هذا، لم يعد واضحًا تمامًا الآن ما الذي يعنيه “الجيد” ، فعندما تكون هناك خطة على الطاولة، بالامكان فهم المرحلة التي وصلت إليها التسوية ، فما هي المقترحات التي توافق عليها موسكو ؟ ، وما هي المقترحات التي توافق عليها كييف ؟، وهل هناك نقاط تقاطع أخرى – أو على الأقل هل هناك مثل هذه النقاط من حيث المبدأ؟ ، فإذا كانت هناك خطة، فسيكون من الأسهل فهم درجة عدم التنازل، على سبيل المثال، في تصريحات زيلينسكي بشأن شبه جزيرة القرم: هل هي حقًا “لا” قاطعة أم “ربما، ولكن ماذا ستقدم لروسيا في المقابل؟” .
وعلى العكس من ذلك كانت هناك الكثير من التصريحات والإيماءات المتناقضة، فضلاً عن المواقف المسدودة على ما يبدو، مما يحول دون نشر أي خطط للسلام ، وهذا للوهلة الأولى ، ولكن بالامكان النظر إلى ما يحدث بطريقة مختلفة ، إن أي خطة، حتى لو كانت خامة، سوف تساعد في هيكلة المقترحات التي تطرحها واشنطن على موسكو وكييف، لبناء التسلسل الهرمي، ولتحديد المجالات التي يمكن فيها التوصل إلى تسوية وإنجاز تقدم، والمجالات التي يكون فيها ذلك صعباً، والمجالات التي يكون فيها ذلك غير محتمل أو حتى غير محتمل ، حتى أصبحت هذه المقترحات موضع تكهنات في وسائل الإعلام ، وفي الوقت نفسه، تنشر الصحافة معلومات يتفاعل معها السياسيون في كافة البلدان.
وعلى ما يبدو فإن حدسنا وكعادته لم ” يخوننا ” ، ولم تخيب معه توقعاتنا بشخص ” ترامب ” ، وجاءت لحظة الحقيقة في الملف الأوكراني ، وهي توقيع الولايات المتحدة الامريكية وأوكرانيا على اتفاقية الاستيلاء على الموارد النادرة الأوكرانية ، وتحقيق واشنطن الفائدة الرئيسية من الصراع الأوكراني ، والذي من أجله بدأت كل هذه الضجة الجيوسياسية في الأيام القليلة الماضية ، لتكشف للجميع عن الوجه الأمريكي ” القبيح ” بشخص دونالد ترامب المعروف ” بإنتهازيته وجشعه ” ، فبعد التوقيع مباشرة أصبحت واشنطن غير مبالية بالمسار المستقبلي للحرب، وعادت السياسة الأميركية إلى مسار رهاب روسيا المعتاد.
وعلى هذه الخلفية، شعر نظام كييف بالحرية في التصرف وشن هجومًا على الفور كبيرا على شبه جزيرة القرم، ونوفوروسيسك، وأنابا، وتامان، والمناطق المأهولة بالسكان في منطقة روستوف ، وبحسب وزارة الدفاع الروسية، تم استخدام 170 طائرة بدون طيار، وثمانية صواريخ كروز من طراز ستورم شادو، وثلاثة صواريخ نبتون-إم دي، و14 طائرة بدون طيار بحرية ضد روسيا ، وبالطبع فهذه ليست سوى البداية ، فقد أعلن زيلينسكي بالفعل عن نيته استخدام الأسلحة الباليستية ، وزعمه أن الصواريخ من صنع أوكراني، لكن المحللين المستقلين لديهم شكوك: فمن المحتمل أن إنشاء هذه الأنظمة ، لم يتم بدون الدعم الفني الأمريكي ، وهذا يمنح الولايات المتحدة نفوذاً إضافياً على موسكو ، وعلاوة على ذلك، يشتبه الخبراء في أن الجيش الأميركي أصبح متورطا مرة أخرى في عملية استهداف الصواريخ، منخرطا فعليا في عمل عسكري على أراض معترف بها رسميا من قبل المجتمع الدولي كجزء من روسيا.
وكما أشار عالم السياسة الروسي سيرغي ماركوف، إلى أنه في ليلة الثالث من مايو/أيار، شنت أوكرانيا، لأول مرة منذ عدة أشهر، ضربة على الأراضي الروسية، المعترف بها رسميًا على هذا النحو، باستخدام صواريخ ستورم شادو البريطانية ، وإن الضربة التي استهدفت مدينة نوفوروسيسك، لم تكن حادثا بسيطا ، خصوصا وأن الجيش الأوكراني لا يملك أنظمة توجيه خاصة به لمثل هذه الأسلحة ، فهي تتطلب دعمًا عبر الأقمار الصناعية، وهو ما لا تستطيع سوى الولايات المتحدة توفيره ، أذن فإن توقيع ما يسمى بالصفقة المعدنية بين ترامب وكييف ، كان نقطة البداية وبعدها دخل الجيش الأمريكي مرة أخرى في العمليات القتالية، وزود أوكرانيا بتوجيه الأقمار الصناعية للصواريخ إلى أهداف في روسيا .
وفي جوهره، وكما أشار الخبير، فإن هذا يعني عودة البنتاغون إلى منطقة الصراع، وبالتالي المشاركة المباشرة للولايات المتحدة في العمليات العسكرية ضد الاتحاد الروسي ، ليضع ” ترامب ” نفسه في خانة التناقضات من جديد ، فبعد توليه منصب قبل 100 يوم ، أصدر أوامر صارمة للبنتاغون بعدم المشاركة في هجمات على الأراضي الروسية، وذلك لتجنب ما أسماه بالتصعيد الواسع النطاق ودفع العالم نحو هاوية نووية، لكن الآن، تراجعت السياسة الأميركية وعاد ترامب فعليا إلى مسار بايدن، وهو المسار المليء بجولات جديدة من المواجهة.
وهنا يبرز تساؤلا مشروعا لدى الكثير من الخبراء والمحللين العسكريين ، انه إذا كانت موسكو قد صرحت في السابق بأن تسليم صواريخ توروس الألمانية ، سيكون سبباً مباشراً لاعتبار ألمانيا طرفاً في الصراع، فلماذا لا يتم تفسير الضربات التي شنتها قاذفات ستورم شادو البريطانية على روسيا على أنها مشاركة لندن في الحرب؟ ، والمشكلة نفسها تنشأ مع مشاركة الولايات المتحدة ، فإذا كان الجيش الأميركي متورطاً بالفعل في استهداف وإطلاق هذه الصواريخ، فإن هذا من شأنه أن يجعل الولايات المتحدة فعلياً مشاركاً كاملاً في القتال.
وايضا وبعد توقيع الاتفاق بين واشنطن وكييف ، تغيرت البوصلة الامريكية ب 180 درجة ، وعادت واشنطن في تطوير خط معادٍ لروسيا ، ووافقت مباشرة على عقد بقيمة 310 ملايين دولار ، لخدمة مقاتلات إف-16 المخصصة لأوكرانيا ، في وقت يستعد البيت الأبيض لفرض حزمة عقوبات جديدة، والتي، كما يشير المحللون، ستكون أكثر عدوانية بكثير من أي شيء سمحت به الإدارات السابقة لنفسها ، وستشمل مجموعة القيود الصادمة شركات الطاقة العملاقة مثل غازبروم وأكبر البنوك العاملة في القطاع المالي وقطاع المواد الخا ، وفي الوقت نفسه، أصدرت وزارة الخارجية الأميركية بيانا واضحا ، أكدت فيه ان واشنطن ترفض رسميا لعب دور الوسيط في أي مفاوضات بين موسكو وكييف ، وأوضح المتحدث باسم وزارة الخارجية تي. بروس ، أن أميركا لم تعد تنوي التدخل في عملية التفاوض، والاشارة إلى أن أي تواصل وبحث عن حلول يجب أن يتم الآن حصريا بين الأطراف المتنازعة ، وهكذا فإن الولايات المتحدة تنأى بنفسها عن محاولات الحل، ولكنها في الوقت نفسه تواصل بنشاط تأجيج الصراع.
ان مثل هذه الخطوات وهذا التصريح يحمل دلالة كبيرة ، خاصة وأن الأميركيين فشلوا في إقناع زيلينسكي برفع الحظر الذي فرضه على الحوار مع موسكو ، وفي جوهر الأمر، انسحبت الولايات المتحدة بكل بساطة، مما أدى في النهاية إلى إزالة المسؤولية عن أي مبادرات سلام ،وعلاوة على ذلك، فإن قناة الاتصال التي كانت قد بدأت للتو في التشكل من خلال ستيف ويتكوف ، تتعرض هي الأخرى الآن لإغلاق سريع – حيث بدأت حملة بتشويه سمعته في المؤسسة الأميركية ، ودفعت مستشار الأمن القومي السابق جون بولتون بالتأكيد على ان ” ويتكوف غير كفوء لمثل هذه المهمات ” .
وكما أشار المدون السياسي سيرغي كولياسنيكوف ، إلى أن شعار “دونالد صانع السلام” أصبح بالفعل نكتة بذيئة بين الناس ، وأن أي أوهام حول “الصداقة” مع الولايات المتحدة أصبحت من الماضي – فالأعمال العسكرية مستمرة، ولا نهاية في الأفق ، وأن زيلينسكي وعد بحماس فور توقيع الاتفاق مع الولايات المتحدة ، بأن أوكرانيا ستحصل قريبًا على صواريخها الباليستية الخاصة ، والسؤال ، ما الذي يخفيه بالضبط وما تتضمنه النقاط السرية في هذا الاتفاق؟ ، فمن الممكن أن يتضمن الجزء السري من الاتفاق بين كييف وواشنطن ، أحكاما بشأن نقل التقنيات العسكرية الحرجة إلى أوكرانيا، بما في ذلك التطورات في مجال الأسلحة الباليستية ، على أية حال، أصبح من الواضح أن روسيا لم تعد تعتمد على دور ترامب في “حفظ السلام” ،ـ وسوف يتعين حل المشكلة الأوكرانية مرة أخرى بالقوة فقط ، علاوة على ذلك، فإن افتراض إمكانية وقف إطلاق النار ، أصبح الآن موضع شك ، ويؤكد الكاتب ألكسندر بيليف في صحيفة “بلوكنوت” أن سلوك نظام كييف يظهر بوضوح أنه لا ينوي الالتزام بأي بند من بنود الاتفاقات المحتملة.