منذ نعومة أظفاره وعيناه معلقتان بأفق السكك الحديدية، عشق صوت الصفير المدوي ورائحة الفحم المتصاعدة من قلب الآلة الجبارة. لم يكن مجرد سائق قطار، بل كان فارساً يجوب المدن والقرى، يحمل في قلبه حكايات المسافرين وأحلامهم.
كانت نظراته تلتهم وجوه المسافرين وكأنها صفحات كتب مفتوحة، يقرأ فيها قصصاً لم تُروَ بعد وحكايات تختبئ بين خطوط التجاعيد ونظرات العيون. كان يرى في كل مسافر رواية فريدة، فصولها مُخبأة في أسرارهم وأحداثها تتشكل في رحلاتهم. كان يستشف من ملامحهم حكايات حب وشوق وأخرى عن حنين وأمل وثالثة عن أحلام مكسورة وأخرى ما زالت قيد التكوين.
كانت عيناه نافذتين إلى عوالمهم الداخلية، يرى فيها ألواناً من المشاعر ودروباً من التجارب وأصداءً من الذكريات. كان يرى في كل مسافر بطلاً لقصة لم تُكتب ومؤلفاً لحياة لم تُروَ بعد.
بدأ رحلته مع القطارات البدائية حين تمكن من الحصول على وظيفة في القطار، تلك القطارات التي كانت تنبض بالحياة وتئن تحت وطأة السنين. كان يداعبها بحنان ويتفهم لغة عجلاتها الصدئة. ومع مرور الوقت، تطورت الآلات وتحولت إلى وحوش حديدية تسيطر عليها التكنولوجيا. رغم السنين، ظل محافظاً على ذلك الشغف وتلك العلاقة الحميمة مع قطاره.
كانت كل رحلة بالنسبة له مغامرة وكل مدينة يمر بها لوحة فنية تتغير ألوانها مع تبدل الفصول. كان يعشق تلك اللحظات التي يرى فيها الشمس تشرق على حقول القمح الذهبية أو تلك التي يرى فيها القمر يعكس نوره على مياه النهر المتلألئة.
فيما بعد ارتقى ليكون سائق القطار.. لم يكن مجرد سائق قطار فحسب، بل كان جزءاً من نسيج الحياة، يربط بين المدن والقلوب، يحمل في صدره أسرار المسافرين وأحلامهم. أحياناً كان يكتب الشعر ويتغازل بالطبية التي يشاهدها بأم عينه. يدون مذكراته ويدرج فيها يومياته مع القطار والمسافرين على متنها. أصبحت له صحبة كثيرة مع أشخاص تعرف عليهم على متن هذا القطار. بعض منهم لا زال على اتصال به حتى وإن مضى على تعارفهم سنين طوال.
كانت مذكراته بمثابة مرآةٍ تعكس وجوه المسافرين وتكشف عن دواخلهم الخفية. كان يتجول بين المقاعد، يسألهم بفضولٍ طفلٍ وعينيه تلمعان ببريق الاكتشاف. “من أين أتيتم؟ وإلى أين تمضون؟ ومن يرافقكم في هذه الرحلة؟” كانت أسئلته بسيطة ولكنها تفتح أبواباً لعوالمٍ لا حصر لها.
كان يستمع إلى إجاباتهم بشغفٍ، يرتشف من حكاياتهم كما يرتشف الظمآن من نبعٍ عذب. كان يرى في كل مسافرٍ قصةً فريدة وروايةً تنتظر من يقرأها وعيناه تتنقلان بين الوجوه، يلتقط منها تعابير الفرح والحزن، الأمل واليأس، الحب والفراق.
كانت رحلات القطار بمثابة رحلاتٍ في أعماق النفس البشرية وهو يرى في كل مسافرٍ جزءاً من نفسه، قطعةً من أحجية الحياة. كان يرى في عيونهم آمالاً وأحلاماً، وأحياناً دموعاً وأحزاناً.
كان هناك من يسافر بحثاً عن شفاءٍ لجسدٍ عليل أو بلسمٍ لروحٍ جريحة. منهم من يسافر بحثاً عن متعةٍ ولحظاتٍ من الاسترخاء أو هربًا من ضغوط الحياة. وكان هناك من يسافر للقاء حبيبٍ غائب أو صديقٍ قديم أو قريبٍ مشتاق.
كانت أسباب السفر تتعدد وتتنوع ولكن القطار كان هو الخيط الذي يربط بين هذه القصص المتنوعة، هو الذي يحمل على ظهره أحلامهم وآمالهم وأفراحهم وأحزانهم. كان هو الشاهد الصامت على رحلة الحياة، بكل ما فيها من تقلباتٍ وتناقضات.
غدت مذكراته بمثابة سجلٍ لحكايات البشر ونافذةً تطل على عوالمهم الخفية. كان يكتب فيها عن قصص الحب والفراق، عن قصص النجاح والفشل، عن قصص الأمل واليأس. كان يكتب عن كل ما يراه ويسمعه، وكل ما يشعر به.
كانت مذكراته كنزاً ثميناً، يضم بين دفتيه حكاياتٍ إنسانيةً خالدة، ستظل تروى للأجيال القادمة، لتذكرهم بأن الحياة رحلةٌ مشتركة وأن القطار هو رمزٌ لهذه الرحلة، يحمل على متنه البشر، بكل ما فيهم من اختلافاتٍ وتشابهات.
في رحلاته الممتدة على طول السكك الحديدية، نسجت السفرات خيوط صداقاتٍ متينة، بعضها استمرت لزمنٍ طويل وبعضها الآخر انقطع فجأة مع توقف القطار في المحطة التالية ونزول المسافر عندها.
كان القطار مسرحاً للقاءات عابرة، لقاءات تترك في القلب أثراً عميقاً. كان يرى في كل مسافرٍ صديقاً محتملاً وفي كل قصةٍ حكايةً تستحق أن تروى. كان يستمع إليهم بشغفٍ، يشاركهم أحلامهم وآمالهم، ويواسيهم في أحزانهم وآلامهم.
كانت بعض الصداقات تزهر في لحظاتٍ قليلة وتنمو مع مرور الوقت، كأنما القطار هو الذي يجمع بين القلوب المتشابهة. كان يتبادل معهم أطراف الحديث، يضحك معهم ويبكي معهم، كأنهم يعرفون بعضهم منذ أمد بعيد.
ولكن، كما هي طبيعة الحياة، كانت بعض الصداقات تنتهي فجأة، كأنما القطار وصل إلى محطته الأخيرة. كان يرى المسافرين ينزلون من القطار، يختفون في زحام الحياة، تاركين وراءهم ذكرياتٍ جميلة وقصصاً لم تكتمل.
كانت تلك اللحظات تترك في قلبه شعوراً بالحزن، كأنما فقد جزءاً من نفسه. كان يتساءل عن مصير أولئك المسافرين وعن قصصهم التي بقت ناقصة. كان يتمنى لو أن القطار يستطيع أن يجمعهم مرةً أخرى، لكي يستأنفوا حكاياتهم ويكملوا رحلتهم.
لكن، كما هي طبيعة القطار، كان عليه أن يواصل رحلته، أن يحمل على متنه مسافرين جدد وقصصاً جديدة. كان يعلم أن الحياة رحلةٌ مستمرة وأن الصداقات هي محطاتٌ عابرة، تترك في القلب بصمةً لا تُمحى.
كانت الصداقات الجديدة تزهو في قلبه كحدائق ربيعية، تملأ روحه بالألوان الزاهية والنغمات العذبة. لكن، مع كل صفير قطار يعلن عن مغادرة محطة، كانت تذبل زهرة في تلك الحديقة وتتسلل حسرة باردة إلى أعماقه. كانت لحظات الوداع كأنها وخزات إبر صغيرة، تؤلم روحه وتترك ندوباً غير مرئية. كان يرى في عيون أصدقائه الجدد انعكاساً لحزنه وكأنهم يشاركونه تلك اللحظات المؤلمة. كان يدرك أن القطار سيأخذهم بعيداً وأن تلك الصداقات ستصبح ذكريات عابرة، كأنها ومضات برق في ليلة صيفية.
كانت الحسرات تتراكم في صدره، تتحول إلى ثقل ينوء به قلبه. كان يتمنى لو أن القطار يتوقف، لو أن اللحظات الجميلة تدوم إلى الأبد. لكن، الحياة كانت كرحلة القطار، تسير باتجاه واحد دونما توقف ولا تعود إلى الوراء أبداً.
هكذا وبدون مقدمات، قرر أن يعتزل البشر وأن يحتمي بصلابة المعدن وبرودة الحديد، في كابينة القيادة، مملكة وحدته. ترك المسافرين بأحلامهم وأسرارهم، لم يعد يبالي بقصصهم المتشابكة ولا بحكاياتهم التي كانت تثير في قلبه خليطاً من الفرح والحزن.
أغلق أبواب قلبه أمام عواطفهم وأغلق نوافذ روحه أمام أحزانهم. لم يعد يريد أن يجمع ذكريات ولا أن يودع وجوهًا ولا أن يحمل في صدره أثقال الفراق. لقد اكتفى من الألم واكتفى من الحنين واكتفى من الوداع.
أصبح القطار عالمه الوحيد وكابينة القيادة صومعته التي يعبد فيها الصمت. لم يعد يرى في المسافرين بشراً، بل مجرد أشباح عابرة، لا تستحق أن يلتفت إليها ولا أن يضيع وقته في التفكير بها.
صب كل اهتمامه إلى قيادة القطار، إلى ذلك الوحش الحديدي الذي يلتهم القضبان بلا توقف. أصبح القطار امتداداً لروحه وأصبحت القضبان طريقاً إلى المجهول. لم يعد يهمه سوى الوصول إلى المحطة الأخيرة، إلى ذلك المكان الذي لا يعرفه أحد، ولا ينتظره فيه أحد.
أصبح اليوم كشجرة صلبة، جذورها متشبثة باللحظة الراهنة وأغصانها لا تلتفت إلى رياح الماضي. لم تعد الذكريات سوى ظلال باهتة، لا تثير في نفسه حنيناً ولا أسفاً. لقد أغلق أبواب قلبه أمام عواطف الماضي، وألقى بمفاتيحه في بئر النسيان.
يعيش يومه كرحلة بلا وجهة، ينتظر الغد كصفحة بيضاء، لا يعرف ما ستخطه عليها الأيام. لم يعد يبالي بما مضى ولا بما قد يأتي، بل يركز على اللحظة الحاضرة، كأنها هي الحياة كلها.
اعتزل البشر وأقام بينه وبينهم سوراً من الصمت والوحدة. لم يعد يريد أن يشاركهم أفراحهم ولا أحزانهم، ولا أن يسمح لهم بالدخول إلى عالمه الخاص. لقد اكتفى من الصداقات واكتفى من العلاقات واكتفى من كل ما يربطه بالآخرين. وجد العزلة خيراً من مفارقة الأحبة عند كل محطة يصلونها.
أصبح وحيداً، لكنه ليس حزيناً. لقد وجد في الوحدة ملاذاً وفي الصمت صديقاً وفي الغد أملاً. يعيش يومه كأنه اليوم الأخير وغده كأنه اليوم الأول.