لم أكن أعلم يوماً أنني سأقوم بكتابة هذه الذكريات التي كانت مخزونة لدينا، لأننا كنا نعيش ظروفاً غير طبيعية في هذا البلد. ولكن ما أتذكره هو أحد الأيام الرمضانية في سبعينيات القرن الماضي عندما كنت في زيارة إلى مدينة الموصل مع أحد الأصدقاء الذي قصد أحد منازل أقاربه لزيارتهم. وعلى ما أذكر جيداً، كان قد جلب معه كمية من لبن الغنم الخالص موضوعة في إناء كنا نسميه “سطلة”. وبعد أن وصلنا إلى منزل أقاربه وكانت الساعة تشير إلى العاشرة أو الحادية عشرة صباحاً، أتذكر استقبالنا الجيد من قبل صاحبة ذلك المنزل وهي تطلب منا البقاء لتناول وجبة الإفطار معهم. ولكننا كنا مقيدين بالوقت، إذ أن السيارة التي كانت تقلنا ستعود إلى القرية بعد ساعتين أو ثلاث، وكان من غير الممكن البقاء حتى موعد الإفطار. فقالت: “نريدكم اليوم أن تبقوا هنا لأنني قد هيأت وجبة من المشويات تضم الكباب والتكة لنشويها قبل الإفطار ونجلس نحن وأنتم على مائدة رمضان المباركة.” وقد شاهدت أكياس شراب الزبيب مرمية على جنب والخضروات المتمثلة في الكرفس والبصل الأخضر وغيرها موجودة أيضاً.
نظرت إلى صديقي نظرة من يريد أن يبقى، وكانت نظراته لي هي نفس النظرات، ولكن مسألة الوقت ومسألة السيارة كانت أهم من كل تلك الأشياء. فلقد كنا نحن ابناء الريف نعاني معاناة شديدة من وسائل النقل، ولم تكن في مناطقنا إلا عدد قليل جداً من سيارات الأجرة التي غالباً ما يكون تواجدها في مدينة الموصل منذ الصباح إلى الظهيرة فقط، ولا نستطيع نحن جيل الشباب أن نذهب معهم كوننا لا نملك الأجرة التي ندفعها لسائق تلك السيارة…
سألت صديقي بيني وبينه: “انظر، إنهم يعملون الكباب في بيوتهم، وانظر إلى تلك الأنواع من الشراب الموجودة في الأكياس، وتذكر عندما نعود إلى قريتنا ما هي وجبة الإفطار التي سوف نتناولها.” فابتسم وقال لي: “إننا نريد الجنة، والجنة فيها أشكال وأنواع من المأكولات والمشروبات والعصائر.” فابتسمت وقلت له: “وهل هؤلاء لا يدخلون الجنة؟”
أيام وأمنيات من طيش الشباب كنا نعيشها بصعوبة بالغة في هذه الحياة، رغم أننا كنا من الأذكياء ونتابع دروسنا بصورة صحيحة ونؤدي واجباتنا المنزلية مع أهلنا، إلا أن ظروف المعيشة القاسية كانت تحرمنا من الكثير والكثير من الحياة الترفيهية الموجودة في المدن. فلقد عانى أبناء الريف في ذلك الزمان من الفقر الشديد الذي كان ملازماً لنا حتى في الفراش الذي كنا ننام عليه، فقد كان بسيطاً جداً ومصنوعاً من بقايا ملابس قديمة.
واثناء الحديث قامت المرأة صاحبة المنزل بمدح الريف والحياة الطبيعية البسيطة هناك بعيداً عن ضجيج السيارات رغم قلتها في ذلك الزمان، فقالت إن أبناء الريف سوف يكون لهم مستقبل أفضل بكثير من أبناء المدن، خاصة بعد أن بدأنا نسمع عن وجود المدارس في القرى والأرياف. كانت المرأة مثقفة بكلامها ولهجتها، وكانت تجد البساطة في الريف وطيبة القلوب وكيفية التألف بين أبناء القرى على عكس ما هو موجود في المدينة.
جلسنا أكثر من ساعة وقمنا بتوديعهم، وذهبنا إلى المكان الذي تتواجد فيه سيارة النقل، والتي كانت عبارة عن بيك أب قديم، وقد جاء صاحبه حتى يبيع بعض حبوب القمح ويقوم بشراء بعض الأدوات الاحتياطية لسيارته، وكان موعدنا معه بعد ساعة في نفس المكان الذي يعرفه صديقي جيداً…
ما أجملها من رحلة في حينها، حتى وإن كنت تصعد في خلفية بيك أب قديم، لكنك متشوق جداً لرؤية شيء جديد كنت تحلم به دوماً حتى تراه.
وإلى مقالة أخرى، ورمضان كريم.