في زاوية مطبخ فلسطيني قديم، يطلّ على ساحة تشرب الشمس بخجلٍ ، تجلس الأم/ الجدة/البنت/الزوجة/ الأخت على الطاولة الخشبية القديمة في البيت الفلسطيني. يداها المتعبتان تغوصان في الطحين كأنهما تعيدان تشكيل ذاكرةٍ نائمة بين الحقول. هناك، حيث كانت الحياة تدور حول بساطة الأرض وطقوسها اليومية، تعلّمت أن كل شيء يبدأ وينتهي من اليدين. الطحين الأبيض الذي أمامها هو إرث الأرض الذي يمرّ من جيلٍ إلى جيل، ناعم كالأحلام القديمة، متناثرٌ كالمسافات التي قطعتها الذاكرة بين الحاضر والماضي.
بدأت يداها، رغم الألم الذي يطوّق مفاصلها، تدوران في انسجام عفويّ حول الطحين، تضيف إليه الماء ببطء، وكأنها تروي عطش حكايةٍ قديمة. كل حبّة تتكوّن وتتكوّر من المفتول بين أناملها تحكي فصلاً من فصول حياتها؛ فصولًا امتزجت فيها البساطة بالمعاناة، والمقاومة بالصمت. لم يكن صنع المفتول فعلًا عاديًا أبدا بالنسبة للجدة، بل طقسة أسطوري مقدس، وفعل صبر يوميّ مكرّس، وحكاية تُروى دون كلمات.
بين الطقوس والذاكرة
حين كانت طفلة، كانت ترى أمها وجدتها تجلسان في المكان ذاته، تلامسان الطحين بأيديهما وكأنهما تلامسان قلب الأرض. كانت الطقوس تترك في قلب البنت إحساسًا غامضًا بالدفء والانتماء. لم تكن تفهم حينها أن المفتول أكثر من مجرد طعام شهي، بل خيط دقيق يمتد بين الأجيال، يربط الحاضر بالماضي، ويُبقي السرديةالفلسطينية حيّة، مهما حاول النسيان أن يتسلل إلى تفاصيلها.
عندما كبرت، أدركت أن صنع المفتول فعل مقاومة صامت . ففي عالمٍ يتغير بسرعة، ويحاول أن يُغرق الجميع في طوفان التكنولوجيا والحداثة، يروي المفتول قصة البقاء الفلسطيني . وكما لا يمكن زراعة الزيتون إلا بيدين تعرفان الأرض جيدًا، لا يمكن صنع المفتول إلا بيدين تحفظان هذا الطقس عن ظهر قلب.
رغم أوجاعها، لا تقبل الأم/ الجدة/الزوجة/صانعة المفتول أن تستعين بأحد. فهي تعرف أن اليد التي تعجن هي التي تحفظ الحكاية، وأن كل حبّة مفتول لا تخرج من بين أصابعها تفقد شيئًا من روحها، من نكهتها التي لا يمكن تكرارها. وبينما كانت تستمر في العمل، تمسح بيدها على ركبتها المتعبة، تنحني قليلًا لتخفف من ثقل الجلوس الطويل، ثم تواصل دون أن تبالي، لأن في داخلها يقينًا لا يتزعزع: “هناك أشياء لا يجب أن تتوقف، حتى لو توقفت الحياة ذاتها.”
المطبخ… مسرح الحياة
حين يتسلل بخار الماء من القدر، ويتسلل معه عبق التوابل الدافئ، تمتلئ الغرفة برائحة تحمل ذاكرة الزمن. تلك الرائحة هي نكهة الحكايات التي ترافقها دائمًا. تنظر الجدة حولها فلا ترى مجرد مطبخ صغير، بل ترى فيه امتدادًا لعالمٍ أوسع، عالمٍ كان يومًا مليئًا بالحياة، بالجارات اللواتي كنّ يجتمعن في الصباحات الباكرة، يملأن الأجواء بضحكاتٍ وحكاياتٍ لا تنتهي.
ترى في كل زاوية ظلًّا لشخصية كانت جزءًا من عالمها. هناك كانت أمها، ومن تلك النافذة تطلّ الجارة وهي تنادي: “هل صنعتِ المفتول اليوم؟”، وفي الساحة الخارجية تلعب طفلة صغيرة لم تكن تعلم أنها ستكبر يومًا لتجلس في المكان ذاته، تصنع المفتول بيدين متعبتين، وتحفظ في كل حبّة ذاكرة بيتٍ وأرض.
تقول الجدة وهي تصنع المفتول لتطعم الأحفاد: “هذه الحبات الصغيرة هي ما بقي لنا… هي ما يحفظ حكاياتنا من الضياع.” لهذا، حين ترى الأحفاد يلتفّون حول المائدة، يشعرون بنكهة مختلفة، نكهة لا تأتي من البهارات فقط، بل من روح الجدات كابرا عن كابر، التي سكنت كل حبّة.
المفتول… مقاومة النسيان
في كل مرة تصنع فيها النساء المفتول، تتذكر أنها بذلك تحفظ إرثًا يتجاوز الطعام. تحفظ الحكاية الفلسطينية التي تحاول أن تتشبث بها وسط عالمٍ يحاول أن ينسى. تعلم أن هناك ما هو أكبر من مجرد مائدة طعام. هناك حياة بأكملها، تفاصيل صغيرة، وذكريات لم تُروَ بعد، تعيش في هذه الطقوس. وحين تُسأل لماذا تصرّ على صنع المفتول بيديها رغم وجع المفاصل، تبتسم تلك الابتسامة التي تحفظ في طياتها حكمةً عمرها عقود، وتقول ببساطة: “لأن الأيدي هي التي تحفظ الذاكرة، وحين تصنع شيئًا بيدك، فأنت تمنح جزءًا منك، من حكايتك، لمن حولك.” وهكذا، تحكي قصتها دون أن تتحدث. تقول دون كلمات إن الوطن ليس فقط مكانًا نعيش فيه، بل هو تفاصيل صغيرة نحملها معنا، حتى لو غيّر الزمن ملامح المكان. المفتول الذي تصنعه النساء ليس مجرد طبق طعام، بل فعل حب، فعل ارتباط عميق بكل ما مضى، وبكل ما سيأتي.
الختام… طقس لا ينتهي
في نهاية اليوم، حين تضع الجدة صينية المفتول على المائدة، تنظر إلى الأحفاد وهم يتسابقون نحو الأطباق الساخنة، وتشعر بشيء من الرضا. ليست بحاجة إلى شكر أو ثناء، يكفيها أن تعلم أن هناك من سيحمل هذا الطقس من بعدها. يكفيها أن تدرك أن حبّات المفتول التي صنعتها اليوم ستحمل في طياتها ذاكرة الأرض، وأن الحكاية ستستمر، ما دامت هناك أيدٍ تعرف كيف تعجن الطحين، وتصنع من الحكايات طعامًا يُغذي الروح قبل الجسد.
هكذا، تظل الجدة تصنع المفتول عامًا بعد عام، كأنها بذلك تصنع زمنًا جديدًا، زمنًا لا يشيخ، يحفظ في طياته دفء البيوت القديمة، ورائحة الحقول، وحنينًا لا ينطفئ للوطن. هي تعرف أن المفتول ليس مجرد طعام… هو حكاية تُروى دون كلمات، وذاكرة تصنعها الأيدي حين لا يبقى من الأشياء إلا ما نصنعه بأنفسنا.