أحلى من التفاؤل مفيش

أحلى من التفاؤل مفيش

من المسلّم به أنني لم أكن متفائلا أبدا. كنت أعتبر الحياة دائما عبارة عن سلسلة من الإزعاجات التي غالبا ما تحوّلها إلى جحيم لا يطاق. من المؤكد أنني لم أعرف أبدا كيف أعيش، أو أحب، أو أمضي في الحياة مستمتعا باللامبالاة التي لطالما رأيتها ولمستها وتذوقتها وشممتها في معظم الذين التقيت بهم. من المؤكد أنني لم أفهم أبدا ما هو المقصود بالضبط بـ “السعادة”، مثلما فهمت التطلع إلى “أن نكون سعداء”، وهي حالة تبدو لي غير متوافقة تماما مع معطيات الوجود التي نرثها عند ولادتنا.

ومع ذلك، كنت أجدني في بعض الأحيان أتمتع بما يسميها البعض الإيجابية: أضحك على كثير من الأشياء الموجودة في الحياة، أشعر بنوع معيّن من السلام والطمأنينة الداخلية التي تعطّر وجودي برائحة الاحتفال. ألّا تكون سعيدا -يا له من رعب- ولكنك تميل إلى الاحتفال بجمال وعظمة الحياة!

ولكن في الأشهر الأخيرة، لم يعد هذا هو الحال. ينتابني شعور لا يتركني أبدا، بأنني على حافة الهاوية القادرة على ابتلاعي في أي لحظة. لا أرى شيئا في مشهد العالم يدعو إلى الفرح. والأسوأ من ذلك، يبدو لي أننا دخلنا مرحلة من التسارع حيث لا شيء مضمون على الإطلاق، بخلاف اليقين بأننا سلكنا بشكل جماعي الطريق الخطأ، الطريق المؤدي إلى الهاوية.

لكن الجديد والمثير للقلق بشكل رهيب هو أن هذه الأفكار المظلمة يتقاسمها الآن أكبر عدد ممكن من الناس. عندما كنت في الماضي أستخدم السخرية التي تعبّر عن تعبي من العالم، كان الناس يدينونني بشكل مبالغ فيه. أما الآن فقد أضحت تعليقاتي “الشريرة” تكسبني المزيد من الاحترام والتقدير. وفي بعض الأحيان، لا يوافقني جلاسي عليها فحسب، بل يضخمونها، بحيث أجدني مضطرا للتخفيف من “تشاؤمهم”.

يوضّح هذا مدى عمق وعناد الانزعاج. نحن جميعا، وفقا لحساسياتنا وخصوصياتنا المميزة، لدينا انطباع بأننا دخلنا عصرا يشبه رؤية واضحة إلى حد ما للجحيم. في عالم فقد بوصلته، يجب علينا توقع الأسوأ. نسي الناس اللامبالاة وسذاجة الأمس، وكأنهم عالقون في فخ جمّد الدماء في عروقهم، فخ جعلهم مصابين بقلق مزمن. وهذا مردّه إلى ظهور الشعبوية، إلى الاحتباس الحراري، صعود قوة الذكاء الاصطناعي، تجدد الحروب، العنف اليومي، الركود الاقتصادي، غباء الجماهير من خلال الاستخدام غير العقلاني لوسائل التواصل الاجتماعي، غياب السلطات الأخلاقية القادرة على تحديد وجهات النظر المستقبلية، ظهور شخصيات مكرّسة للعب الأدوار القيادية في الشؤون العالمية، رغم أنها لا تملك مثقال ذرة من الانسانية والعقلانية. كل هذا جعل الخطابات المتفائلة أمرا عفا عليه الزمن، بل منكرا من القول وزورا.

هناك شعور بالعجز في الأجواء، نوع من الإحباط العام، كما لو أن العالم يتحرك بسرعة مجنونة، لذا فإنه غير قادر على تلبية توقعاتنا. وعلى الرغم من كل جهودنا، ورغبتنا في الإيمان بمستقبل أفضل، فإننا نشعر أننا ندخل عصرا متزايد التعقيد، مفرطا في الميكنة، حيث أصبحت مكانة الإنسان نفسه موضع تساؤل، حيث لم نعد موقنين بأي شيء، باستثناء اليقين بتوجهنا نحو أوقات غامضة.

لا شك أن هذا يزعجني إلى ما لا نهاية. يبدي الجميع نفس التشاؤم مثلي. لم أعد الشخص الوحيد الذي يتذمر ويتشكّى، حتى أن جاري الإفريقي -الذي كنت أعتبره التجسيد المثالي للتفائل- أصبح يشاركني يأسه. والخباز الذي أشتري منه الخبز كل صباح، يخبرني بأنه يرتعش من الخوف عندما يفكر في الغد، وألفيته يطرح أسئلة ميتافيزيقية حول مصيره! ماذا تبقّى لي لأميّز به نفسي عن الآخرين؟ البواسير ربما؟!

لهذا السبب قرّرت، وبضمير حي، أن أصبح أكثر الرجال تفاؤلا: لا مزيد من الأسئلة المثيرة للقلق، سأفسح المجال للأمل وتمجيد المستقبل: سيتحد العرب، ستحرر فلسطين، سينعم العالم بالسلام، سيعمل الذكاء الاصطناعي على تحسين ظروفنا المعيشية بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية، ستحل مشكلة الاحتباس الحراري، سيتعلم دونالد ترامب القراءة والاعتذار عن كل هرائه، وسيفعل فلاديمير بوتين الشيء نفسه، سيشتري فولوديمير زيلينسكي لنفسه بدلة أنيقة، سيصبح الرائع جان لوك ميلينشون رئيس فرنسا، سأغرم بمارين لوبان -التي لا أطيقها- لأنها ستتوقف عن مزاولة السياسة لفتح ملجأ للقطط، وأخيرا، ستنتهي معاناتي من البواسير.

لكن ماذا عن المجازر المروعة في الساحل السوري؟ ألم يسبق لي أن أخبرتكم بأن الوضع فظيع. إن العالم يتجه نحو الكارثة.