سردية “هيئة الإعلام والاتصالات” لمنع مسلسل “معاوية ” وفرض وصايتها على العقل الجمعي الشيعي!

سردية “هيئة الإعلام والاتصالات” لمنع مسلسل “معاوية ” وفرض وصايتها على العقل الجمعي الشيعي!

الجميع أو لنقل معظمهم من رجال الدين “السنة والشيعة” على حدآ سواء لا يريدون لنا أن ننظر من خلال ما نراها في بطون أمهات كتب التاريخ , ولكن من خلال ما يرونه ويصورونه لنا , ومن خلال نظرتهم بأن يُظهر لنا “معاوية بن أبي سفيان” في التحليل التاريخي ، عن مدى البراعة السياسية والعسكرية استثنائية التي تميز بها طوال فترة حكمه وما بعدها، حيث نجح بدوره في تأسيس الأسس التنظيمية لدولة إسلامية شملت مشارق الأرض ومغاربها , وأرست معها دعائم الإمبراطورية الأموية. ومع ذلك ، لا يمكن لنا اعتباره رمزًا دينيًا بارزًا وبنفس المقاييس والمعايير وعلى النقيض تماما، بما يتميز به الإمام “علي بن أبي طالب (ع) ” بمكانة روحية عادلة، حيث يُعد في التراث الإسلامي إمام المتقين ورمزًا للحق والعدل، ولكنه لم يحقق النجاح ذاته في إدارة شؤون الدولة بأبعادها السياسية والإدارية والعسكرية. كما حققها للإسلام ” معاوية” يعكس بدوره لنا هذا التباين ومدى توسع جوهر الاختلاف بين الشخصيتين، وهو اختلاف غالبًا ما تتجنب المصادر التاريخية “السنية والشيعية” الخوض فيه بعمق وتحليل أكاديمي علمي رصين بعيدآ عن المواقف المسبقة لكلا الشخصيتين ، ربما خشية منهم أن يبرز تحليل صريح وغير متبع في سياق الجدل , إيهما كان أحق بالخلافة بغض النظر عن بعده أو قربه من الرسول والنبي محمد (ص) لأنه سوف يثير إشكاليات عقائدية تاريخية أو يعيد حتى تقييم السرديات التقليدية التي غلفتها لنا كتب التاريخ طوال القرون الماضية وما تزال لغاية الآن واذا اراد احد ان ينفض غبار التلفيق والتزوير الذي حل بهذه الكتب والمراجع ويعيد صياغتها ونقد كتابة التاريخ مرة أخرى يتهم فورآ من كلا الطرفين ” الشيعة والسنة” بالكفر والإلحاد والزندقة ويكون مصيره الصلب على اقلام ما خط به مداده .

أن المثل العربي “كل ممنوع مرغوب” يعبر عن فكرة بأن الأشياء التي يُمنع الإنسان منها غالبًا ما تثير فضوله وتزيد من رغبته في استكشافها أو الحصول عليها مهما كلفه الأمر . هذا المبدأ والفلسفة النفسية للطبيعة البشرية تنطبق على العديد من المجالات، بما في ذلك الدراسات التاريخية والدينية . وبالأخص ما يتم تناوله ونراها تحديدا في سياق سير الصحابة (أي السير الذاتية لصحابة النبي محمد صلى الله عليه وسلم)، قد يرتبط لنا هذا المثل العربي بأمور محددة على سبيل المثال وليس الحصر : منع النقاش الأكاديمي البحثي الرصين حول المعلومات التاريخية المحظورة التي تحتويها كتب التاريخ والفقه أو حتى المثيرة للجدل , لان في بعض أو الكثير من الأحيان لا تتناغم مع ما هو مطروح للعامة من الناس وما يريده رجال الدين بدورهم أن يبقى في مفهوم العقل الجمعي للمسلمين . صحيح أن هناك روايات أو تفاصيل في سير الصحابة ما تزال تُعتبر حساسة أو مثيرة للخلاف بين المذاهب الإسلامية المختلفة (السنة والشيعة) هذه الروايات تُمنع معها من مناقشتها أو حتى مجرد التطرق لها في سياقات تاريخية معينة، مما يجعلها أكثر جاذبية للباحثين والمهتمين بالتاريخ الإسلامي أو حتى القراء بمختلف توجهاتهم والذين يسعون بدورهم لفهم الحقيقة الكاملة وبدون أن يكون هناك فتوى ووصاية مسبقة على عقولهم , وان لا تُفرض قيود على تداول كتب أو أبحاث معينة تتناول حقيقية سير الصحابة بطريقة نقدية أو غير تقليدية , لان هذا المنع المسبق سوف يحفز الناس دون شك على البحث عن هذه المصادر بشكل أكبر وأوسع ، سواء يكون بدافع الفضول أو الرغبة في معرفة وجهات نظر مختلفة , وفي هذا السياق قد يشير إلى أن القيود المفروضة على بعض المعلومات التاريخية أو الدينية المتعلقة بالصحابة وال البيت (ع) قد تجعلها أكثر إغراءً للدراسة والاستكشاف والبحث وليكون أشبه بالتنقيب بمنجم في البحث بالعلوم الفكرية والعقائدية.

بعد عرض الحلقات الأولى من مسلسل “معاوية” والذي تهافت عليه معظم العراقيون رغبة منهم في مشاهدة عمل درامي تاريخي , وما الذي يحتويه من سرد لإحداث تاريخية , لذا ومن طبيعة الغريزة البشرية للفضول ولمعرفة وبسؤال أصبح يطرحونه بدورهم : لماذا وجب عليهم بان لا يتم مشاهدته ؟ وما الذي يخفيه لنا هذا المسلسل من خطورة على عقولنا وتفكيرنا ؟ ما دمنا محصنين سلفا بالحب والاقتداء بنهج ال البيت (ع) وما يتم عرضه من الإحداث التاريخية لسيرة “معاوية بن أبي سفيان” وهو أحد الشخصيات البارزة في التاريخ الإسلامي، ومؤسس الدولة الأموية. والذي أُنتج المسلسل بميزانية ضخمة تُقدر بحوالي 100 مليون دولار، ولكن، قبل أيام من بدء عرضه ، أعلنت لنا “هيئة الإعلام والاتصالات / العراقية” في الأول من أذار 2025 منع بث المسلسل في العراق ، مما أثار جدلاً واسعاً , وقد أشارت لنا “الهيئة” من خلال تبريرها غير المقنع والساذج إلى : أن المسلسل يتناول حقبة تاريخية حساسة وهي “الفتنة الكبرى” التي شهدت صراعات بين كبار الصحابة مثل “علي بن أبي طالب” و “معاوية بن أبي سفيان”  ولان هذه الفترة بدورها تُعتبر مثيرة للجدل , وخشيت “الهيئة” بدورها وحسب تبريرها , بأن يؤدي العرض إلى إثارة جدل وسجالات طائفية تهدد الوحدة الاجتماعية في العراق . ولذا سارعت بدورها وأيدت بعض الجهات الشيعية القرار دون أن يشاهدوا المسلسل مسبقآ من خلال الطلب من ادارة ان بي سي بإرسال نسخة من المسلسل لغرض الاطلاع والبحث وتقصي الحقائق التاريخية قبل عرضه في شهر رمضان وإبداء الرأي ، والتبرير الهيئة : معتبرة أن تصوير معاوية بشكل قد يُظهره كبطل أو شخصية إيجابية قد يُسيء إلى شخصيات مثل علي بن أبي طالب أو الحسين بن علي، واللذين يحظيان بمكانة كبيرة في التراث الشيعي. ولكن هناك وفي المقابل، من طالب آخرون صراحة برفع الحظر، معتبرين أن منع المسلسل يحد من حرية التعبير والفكر ويمنع الجمهور المشاهدين من تشكيل رأيهم الخاص حول الأحداث التاريخية. وهذا الجدل حول المسلسل يكشف لنا عن مدى ما وصلنا اليه من حساسية طائفية عميقة تتغلغل بصورة خفية داخل الجسد العراقي السرطان الذي ينهش بجسد الانسان دون علمه , بحيث يتم التركيز على الفشل الذريع للمجتمع العراقي ويصور لنا بان تركيبته الطائفية المعقدة لا تسمح له بمشاهدة تلك المسلات التاريخية وعرضها دون أن يكون هناك منع مسبق لها ، وأن يخشى البعض منهم من أن يؤثر على عقليتهم ثم بالتالي يتم تحريره من النهج الطائفي والذي لا يريده البعض أن تبدأ بوادره مع السماح لعرض مسلسل اسمه “معاوية ” على العكس ما اتخذته هذه “الهيئة” من عدم اعتراضها على استباحة المسلسلات الايرانية التاريخية بعد عام 2003 وما حملته لنا من نهج طائفي ومذهبي واستعلاء وتكبر على ما كل هو عربي وحتى شيعي وبدون اي رقابة ولا حسيب ولا رقيب .

أن منع مسلسل “معاوية” في العراق يعكس لنا بأنه ما يزال هناك حقآ توازنًا هشًا بين كل من الثالوث المحرم “الفن، الدين، السياسة” بعد أن كان الثالوث المحرم ” الجنس . الدين . السياسة”  فقد اختزلت تبديل مفردة كلمة “الجنس” بالابداع “الفني” هكذا يريد أن يوصل لنا الفكر الطائفي من قبل رجال الدين . ولان القرار يهدف ظاهريًا إلى تفادي الفتنة الكبرى المجتمعية في العصر الحالي ، ولكنه ومن حيث لا يعلم هؤلاء في الهيئة المنع الفكري والحجر على عقول الناس من أنها قد فتحة الباب لنقاش أوسع حول كيفية التعامل مع الأحداث التاريخية في الأعمال الفنية، ومدى قدرة المجتمعات على مواجهة رواياتها التاريخية وفهمها وإدراكها بموضوعية.

تظل لنا إيران، وفي ظل نظام ولاية الفقيه، تحتفظ بضغينة تاريخية تجاه العرب، متمثلة في الخليفة عمر بن الخطاب، الذي قاد – من خلال معركة القادسية بقيادة سعد بن أبي وقاص في عام 636م – إلى انهيار الإمبراطورية الساسانية. يتجلى هذا الموقف في الأدبيات الفارسية المعاصرة، حيث تستمر كتابات المؤلفين والشعراء الإيرانيين في وصف العرب بعبارات قاسية، مما يكشف عن استراتيجية تهدف إلى كسب الحرب الثقافية . تعتمد هذه الاستراتيجية على نشر روايات طائفية ومذهبية مغلفة بالأساطير والخرافات والمظلومية، بهدف التأثير على المجتمع الشيعي العراقي عبر آليات التأثير الفكري الاستراتيجي بعيدة المدى ، وصولاً إلى اختراق العقل الجمعي العراقي واختزاله ما يتم سرده لهم من خلال ما تنتهجه الدراما التلفزيونية الايرانية . ولانها تدرك أهمية هذه الحرب الثقافية كأداة فعالة للتأثير على المزاج العاطفي الشعبي العراقي، حيث تُعد أحد أخطر الأسلحة وأسرعها تأثيرًا في تعزيز هيمنتها الثقافية ونظرتها الطائفية ونشرها حول الدول الإقليمية. وفي هذا السياق، تدعم إيران أكثر من ستين مؤسسة عراقية تشمل قنوات إعلامية ومراكز ثقافية ، وكما أسست من خلال وكلائها في العراق ما يُعرف بـ’الاتحاد العام للإذاعات والتلفزيونات العراقية’، الذي يروج علنًا لمفهوم ‘ولاية الفقيه’ إلى جانب تعزيز الخطاب التاريخي الفارسي ذي النزعة الطائفية في تفسيره للتاريخ الإسلامي. وعليه، يبرز الحذر من الوقوع في الفخ الإيراني الجديد، المتمثل في المشاركة بأعمال درامية تخدم استراتيجية طهران للهيمنة على العراق والمنطقة.

والملاحظ في السنوات الأخيرة للمتابع كيف انها تعتمد إيران، في ظل نظام ولاية الفقيه، خطابًا مزدوجًا يتجلى في تناقض بين ما تعلنه سياسيًا وما تمارسه عمليًا. يمتد هذا النهج اليوم إلى منظومتها الإعلامية والفنية، كما يظهر في أعمال درامية مثل ‘المختار’ و “باب المراد” حيث تشير لنا جميع الدلائل التاريخية والمعاصرة إلى تطابق هذه الاستراتيجية مع سياسات التغيير الديموغرافي في المحافظات ذات الغالبية السنية، لا سيما في ديالى وكركوك والموصل وصولا الى الانبار ، إلى جانب محاولات التأثير الفكري على المجتمع الشيعي العراقي. وتسعى إيران كذلك من خلال هذه الأعمال الدرامية الطائفية إلى تعزيز هيمنتها الثقافية بعد تراجع نفوذها في سوريا ولبنان، مستغلة الدراما التلفزيونية كأداة لإعادة صياغة السرديات التاريخية بطابع طائفي . تهدف هذه الاستراتيجية إلى ترسيخ حالة من الفتنة الطائفية ضمن العقل الجمعي الشيعي، عبر تقديم روايات تاريخية مشوهة غالبًا ما تعتمد على أكاذيب ملفقة أو روايات شفوية غير موثقة أكاديميًا، كما يشير إلى ذلك بعض الباحثين الشيعة أنفسهم، من أمثل العلامة سماحة المرجع الديني السيد كمال الحيدري.

تتجاوز هذه الجهود مجرد التأثير الثقافي، حيث تعمل على تعميق الكراهية والعداء بين الشيعة والسنة وباقي الطوائف بطريقة تهدف إلى جعل هذا الانقسام غير قابل للمراجعة أو النقاش العقلاني. وتستند كذلك الدراما الإيرانية في ذلك إلى توظيف مظلومية آل البيت (ع) بنفَس سياسي وطائفي، رغم أن الكثير من هذه المظلوميات يفتقر إلى توثيق تاريخي دقيق، معتمدًا على روايات شفهية تناقلتها الأجيال دون دلائل مؤكدة، حتى في المصادر الشيعية البحثية. يندرج هذا النهج ضمن محاولة إيران لتصدير فكرها الأيديولوجي إلى المجتمعات الشيعية في العالم العربي، بهدف فرضه كحقيقة مطلقة لا تقبل الاعتراض أو التساؤل. وفي سبيل تحقيق ذلك، تسعى إلى تقييد مصادر المعرفة الفكرية والتاريخية المتاحة للعقل الشيعي، محصورة إياه في الطروحات الدينية والثقافية المتوافقة مع رؤية ولاية الفقيه، مما يعزز هيمنتها الأيديولوجية والثقافية على المدى الطويل.

إن هذا المنع الذي فرضته “هيئة الإعلام والاتصالات” يهدف إلى إرسال رسالة واضحة إلى المجتمع الشيعي مفادها : أنتم، حتى الآن، لم تتهيأوا ــ لا عقليا ولا فكريًا ولا أكاديميًا ولا علميًا – لمشاهدة عمل مثل هذا المسلسل. لذا، نمنعكم منه، زعمًا منهم بحماية عقولكم من التلوث الفكري، و نبقيها كما نريد: خزانات ممتلئة بالخرافات والأساطير الطائفية المذهبية التي ترسخت عبر قرون من الروايات المتضاربة. وأما من يجرؤ على التفكير أو إبداء رأي مغاير، فإنه يُتهم فورًا بالخروج عن نصرة مظلومية آل البيت – ذلك الشعار الذي ظل، منذ فتنة الجمل إلى يومنا هذا، سوطًا يجلد به ظهور العوام، ليبقوا أسرى الوجدان العاطفي لا العقل والانفتاح الفكري .

 

يتعين على الإعلام العربي المعاصر أن يتبنى موقفًا حازمًا في مواجهة عمليات التأثير الفكري والثقافي التي تستهدف العقل العربي، والتي تُنفذ عبر بث الأعمال الدرامية والتاريخية الإيرانية. تهدف هذه الأعمال إلى ترسيخ رواية مغايرة للحقائق التاريخية الإسلامية، مما يستدعي، في الوقت ذاته، إطلاق حملة مضادة تهدف إلى التصدي للانتهاكات الدرامية التي تسعى إلى تشويه صورة الإسلام، والتاريخ، والهوية العربية. وينبغي أن تركز هذه الحملة على كشف الدوافع الخفية والأهداف الاستراتيجية الكامنة وراء تلك الإنتاجات، بالإضافة إلى تطوير أعمال درامية عربية تعكس الحقائق التاريخية بدقة. ونريده ان يأتي ذلك في سياق الحاجة إلى منع الهيمنة الإيرانية على وعي المشاهد العربي، وضمان عدم تركه عرضةً للحرب الثقافية الضمنية التي تشنها إيران من خلال إعادة صياغة التاريخ وفق رؤيتها الفارسية.

 

يجب تمكين المواطن مهما كانت مرجعيته الدينية أو العلمية , من أنه لديه مطلق حرية الاختيار في تحديد ما يرغب في مشاهدته وما يفضل تجنبه، دون فرض حكم مسبق عليه ويلغي دوره العقلي والمعرفي أو تحل الفتاوى الطائفية المسبقة محل عملية التفكير الذاتي لديه , لأنه لديه القدرة المعرفية لسياقات البحث أو النقاش العلمي حول الحرية الفردية وأن لا تفرض عليه الرقابة الثقافية على تفكيره قسرا .

أحدث المقالات

أحدث المقالات