هذه حلقة ثانية من مقالتي حول المترجمين العراقيين في الاتحاد السوفيتي .لقد أثارت الحلقة الاولى من تلك المقالة ردود فعل كثيرة ومتنوعة في اوساط القراءوارسلوا لي معلومات جديدة و جديرة بالتسجيل , وكنت اخطط ان أجمع ردود الفعل تلك وانسقها واقدمها ضمن هذهالحلقة الثانية لاستكمال الفائدة من تلك المقالة وتحقيق هدف كتابتها , اذ اننا ذكرنا في المقالة ان الموضوع هذا واسع جدا ومتشعب وانه يستوجب مشاركة الكثيرين ممن ساهموا في هذا العمل الثقافي الكبير بشكل او بآخر , الا اني فوجئت بخبر وفاة المرحوم الدكتور سعدي المالح ( 1951 – 2014 ) في احدى مستشفيات اربيل قبل ايام قليلة , وهكذا قررت ان تكون هذه الحلقة مكرسٌة له بالذات و خصيصا حول نشاطه الترجمي في الاتحاد السوفيتي و ذلك تكريما لذكراه اولا , و ثانيا باعتباره واحدا من أعمدة تلك الحركة الثقافية الكبيرة في مسيرة العراق المعاصر .
لم اتشرف بالتعرف اليه شخصيا مع الاسف الشديد , اذ انه درس في السبعينات في الاتحاد السوفيتي , اي بعد ان انهيت انا دراستي وبالتالي سفري من موسكو, ولكني قد سمعت باسمه ونشاطه الثقافي و الادبي والترجمي طبعا خلال مسيرة حياتي , وسألني عنه أحد اعضاء اتحاد ادباء روسيا في احتفالات داغستان بالذكرى التسعين لميلاد الشاعر رسول حمزاتوففي مدينة محج قلعة عندما عرف اني من العراق , فاخبرته ان الدكتور المالح الان يشغل منصب المدير العام للثقافة السريانية في وزارة الثقافة بكردستان العراق , وقد فرح جدا بهذا الخبر, وتحدثنا عنه , وقال لي انه درس معه فترة ويحتفظ باجمل الذكريات عنه وعن ثقافته الواسعة الموسوعية ومعرفته بعدة لغات ومواقفه الفكرية التقدمية وروحه الشفافة المرحة , وقد سررت انا بالطبع جدا بهذه الانطباعات الطيبة عن أحد زملائي العراقيين المثقفين , الذين درسوا في الاتحاد السوفيتي , وحدثته بدوري عن نشاطاته العامة الاخيرة من اصدارات وبحوث ومقالات و التي كنت اتابعها بشكل عام عبر اطلاعي على اخبار الثقافة واحداثها في العراق عموما . وقبل عدة اسابيع ليس الا كتبت لي البروفيسورة الدكتورة الميرا علي زاده (من معهد الاستشراق التابع لاكاديمية العلوم الروسية ) في احدى رسائلها عنه , وسألتني اذا كنت أعرف آخر اخباره , واشارت انه درس عندهم في المعهد وناقش اطروحه الدكتوراه حول الادب العراقي في المنفى هناك بنجاح وانها تعرفه شخصيا وتعتزٌ به , وقد تذكرتها رأسا عندما قرأت الخبر عن وفاته وارسلت لها ما نشرته بعض الصحف العراقية حول ذلك الحدث الاليم.
لقد كانت موجودة ضمن ملاحظاتي التي سجلتها لاعداد وكتابة الحلقة الثانية هذه ان اشير الى عدة نقاط حول المترجمين العراقيين , منها انني ذكرت بالطبع اسم سعدي المالح ضمن قائمة المترجمين بشكل عام , ولكني لم اذكره ضمن مترجمي الادب الروسي في الفقرة التي جاءت بعد تلك القائمة العامة ,والتي اقترحت فيها ان نبتدأ بدراسة هذه الظاهرة بالذات منطلقين من ترجمات الادب الروسي اولا, واعترف اني ارتكبت هفوة غير متعمدةبتاتا بالطبع , اذ اني لم انتبه – وسط ضجيج الحياة اليومية ومتطلباتها و ضغوطها و اوراقها المبعثرة – الى الملاحظة المدونة عندي بشأن ترجمه المالح لرواية الكاتب القرغيزي السوفيتي الشهير جنكيز ايتماتوف ( 1928- 2008 ) الموسومة – ( ويطول اليوم أكثر من قرن ) , والصادرة بالعربية عام 1989 في موسكو عن دار النشر السوفيتية المعروفة ( رادوغا ) ( قوس قزح ),وتقع هذه الرواية ب (390 ) صفحة من القطع المتوسط, وهي رواية مهمة جدا في مسيرة الادب في المرحلة السوفيتية وفي التطور الابداعي للكاتب ايتماتوف نفسه , والتي تعد واحدة من نتاجاته الاخيرة وظهرت في الثمانينات , وقد استطاع المالح ان يترجم هذه الرواية بمهارة فنية عالية جدا وبشكل أنيق , وان يحافظ على اسلوب ايتماتوف الشاعري والواقعي الجميل والرقراق والشفاف والسلس , وقد بدت واضحة تماما – وبشكل لا يقبل الشك – ملامح تلك التجربة والخبرة المتراكمة للمالح في مجال الترجمة الادبية والتي كانت حصيلتها اصدار حوالي عشرة كتب في الادب الروسي مترجمة في الاتحاد السوفيتي عن اللغة الروسية خلال حوالي سبع سنوات لا غير , وكان هذا الكتاب آخر العنقود كما يقال , والذي يمكن ان نطلق عليه التعبير العربي الكلاسيكي الرشيق المعروف – ( مسك الختام ) . تأملوا معي هذا المقطع الصغير فقط من تلك الرواية – (.. وفي تلك الاثناء حل الصباح في خطوط العرض الشمالية من المحيط الهادي , وكانت الساعة تشير الى الثامنة, وغمرت أشعة الشمس الساطعة بفيض نورها المتدفق المنطقة ذات الارجاء الواسعة المتلألئة والغارقة في سكون عظيم , وما عاد يرى في تلك الآماد اي شئ آخر غير الماء والسماء. .) . ما رأيكم بهذا المقطع ؟ انه يكاد ان يكون قصيدة نثر تقريبا , قدمها لنا ايتماتوف بالروسية وترجمها لنا الى العربية و بشكل مبدع الدكتورسعدي المالح .
لقد صدر كتابه المترجم الاول عن اللغة الروسية في موسكو عام 1983 وكان بعنوان ( الاخوة والاخوات ) وهي رواية بقلم فيودور ابراموف , ثم اعقبتها كتب اخرى صدرت من فرع طاشقند لدار النشر السوفيتية المذكرة او من موسكو نفسها , وهذه الكتب هي كالآتي – بحار التايغا/ رواية / بقلم يوري كافليايف / طاشقند 1983 // السيل الحديدي / رواية / بقلم سيرافيموفيتش / طاشقند 1984 // كينتو ريتشي دوستيان – قصص/ طاشقند 1985 // ثلاث مسرحيات سوفيتية/ موسكو 1986 // اجمل السفن / قصص / بقلم يوري ريتخيو / طاشقند 1986 // ناموس الخلود / نوادر دومبادزه / رواية / طاشقند 1988 // ويطول اليوم اكثر من قرن / رواية / بقلم جنكيز ايتماتوف / موسكو 1989 , اضافة الى العديد من الترجمات الشعرية الاخرى للكثير من الشعراء الروس المعاصرين مثل حمزاتوف واخماتوفا ويفتوشينكو وتسفتايفا …الخ.وهكذا نلاحظ ان نشاطاتالدكتور سعدي المالح كانت محصورة بين عام 1983 وعام 1989 ليس الا , وهي– نسبيا – فترة ليست طويلة بتاتا , و مع ذلك فانه استطاع ان يصدر هذه الكمية من الكتب المترجمة في هذه السنوات , علما ان الفترة الذهبية للاصدارات السوفيتية باللغة العربية كانت واقعيا قبل ذلك التاريخ , وان الفترة التي عمل فيها المالح كانت تمثل مرحلة تراجع , وهي التي كانت – واقعيا – قبيل انهيار الاتحاد السوفيتي , والذي حدث عام 1991 كما هو معلوم , ومع ذلك استطاع ان يحقق تلك النجاحات في هذا المجال الابداعي الصعب .
المرحوم الدكتور سعدي المالح – شخصية ثقافية متميزٌة في تاريخ الادب والفكر في العراق المعاصر , وقد ساهم في حركة الترجمة عن اللغة الروسية في الاتحاد السوفيتي , وتستحق مساهماته الترجمية هذه ان ندرسها ونضعها في مكانها اللائق بها , والجديرة بها في تاريخ هذه الحركة الثقافية.