27 فبراير، 2025 3:56 م

معارك بلا خرائط “أيام من الزمن القبيح”

معارك بلا خرائط “أيام من الزمن القبيح”

في خريف 1980، قرر صدام حسين، وهو يتأمل عرشه المبني علىأحلام التوسع، محاطًا بأفواج حرسه القساة، أن يُحوِّل تلك الأحلام إلى نيران التهمت أعمار مواطنيه وأمنياتهم.

أراد حربًا خاطفة وسريعة، زاعمًا أنها “ستُعيد أرضاً عراقية” تنازل عنها في اتفاقيات سابقة مع جارة العراق الشرقية، إيران. وبعدأشهر على اندلاع الحرب، وبدلاً من انحسار نيرانها، اشتدت ألسنـتها واتقدت بجنون، دون أن يتمكن صدام من استعادة أي شيء مما وعد به.

تصاعدت خسائره، فلم يعد أمامه إلا أن يُكثر من الأناشيد والأغاني الحماسية. صفّق كثيرًا لحمورابي، وادّعى أنه حفيد نبوخذ نصّر. لكن هذه المحاولات كانت بلا جدوى.

وكما هي عادة من يشعر بالخسائر الجسيمة، بدأ صدام يستدعي الشعارات لتصبح مادته الإعلامية المفضلة في تبرير حربه.

لكنه اضطر بعد أشهر من الحرب الى التراجع عن بعضها، فابتلع مطالباته باسترجاع مخافر حدودية والسيادة الكاملة على شط العرب، واكتفى بالدعوة لإيقاف الحرب، لكن الأوان كان قد فات، وأفردت الحرب أجنحتها على العراقيين.

وأصبح الحديث عن الحرب، وضحاياها والمفقودين والأسرى بعد كل معركة، جزءًا من الحديث اليومي المؤلم للعراقيين المتعبين.

أرغم البعثيون الناسَ في الأسواق والأماكن العامة على الاستماع إلى خطابات صدام وأناشيد تمجيده، تبث من مكبرات الصوت.كانت أم زهراء تستمع باستياء.

أم زهراء، سبعينية عاصرت حروب العراق وتقلباته، وكانت تمتلك تجربة طويلة وشخصية قوية جعلتها تدرك ألاعيب السياسة. منذ بدأ صدام قادسيته المشؤومة، كما كانت تسميها، وهي تصفه بـ’الغبي’.

ولم تكترث لتحذيرات ابنتها زهراء، التي اعترضت مرارا على ما توجهه والدتها من انتقادات للنظام قد تؤدي بها الى المجهول.

في جلسات المساء مع جاراتها، كانت تقول بصراحة: لماذا لا يرسل أبناءه وأقرباءه إلى الحرب؟ أليست هي قادسية صدام؟ فليرسلهم لقادسيته إذن!

تُدرك زهراء ما يدور في خلد والدتها، فكأنها تندب حظ ابنتها بعد فقدان زوجها العقيد احمد منذ أسابيع، هو ثلاثيني من عائلة بغدادية متوسطة الحال، والده مدرس للتاريخ طالما حكى له عن أمجاد العراق القديم وحضاراته العظيمة، وكان يعشق بلده بشدة.

العقيد احمد بين تلال الشوش

منذ صغره، حلم بأن يصبح ضابطًا في الجيش، ليس فقط لحماية وطنه، ولكن أيضًا ليكون جزءًا من بناء مستقبله الأفضل.

ومنذ بدء الحرب وجد العقيد أحمد نفسه مجبرًا على تنفيذ أوامر صدام الصارمة باجتياز الحدود الدولية الخالية. وفي ليلة التوغلدخلت وحدته بعمق 100 كم إلى مشارف مدينة الشوش الإيرانية التاريخية.

كانت الحدود خالية من الجانب الإيراني، فالإيرانيون مشغولون بثورتهم التي أطاحت بنظام الشاه وجيشهم غادر ثكناته.

وجد أحمد نفسه عالقًا بين قيمه الإنسانية والأوامر العسكرية، متسائلًا: لماذا نستهدف هؤلاء البسطاء وهم عرب مثلنا’؟!”

هو يدرك أن للحروب وجوه بشعة تقسو على الضعفاء والصغار، ولها أفواه متوحشة تلتهم الحياة والتاريخ والفرح.

عندما ألقى جنوده القبض على عدد من المدنيين الإيرانيين قرب مدينة الشوش، للتحقيق معهم بخصوص معلومات تشير الى استعدادات تقوم بها قوات البسيج “التعبئة الشعبية” الايرانية لشن هجوم على قواته.

لاحظ العقيد أحمد أن المدنيين الخائفين المتعبين يتحدثون العربية،ويرتدون زيا شعبيا شبيها بالزي الشعبي لسكان جنوب العراق.

حين سألهم عن أصولهم، اتضح أنهم من قبائل عربية معروفة: بني كعب، بني طرف، آل خميس، وآخرين.

ساءه ما رآه من آثار الخوف والتعب على وجوههم، وتساءل في سرّه عن هدف هذه الحرب ومدى مشروعيتها في استهداف العرب مثلهم. لم يجد إجابة شافية عندما سأله أحد المعتقلين: ‘لماذا أنتم هنا؟ ماذا تريدون منا؟

العقيد أحمد، الذي لم يكن يملك إجابة شافية، وجد نفسه يتساءل أيضًا: إذا كنا نريد تحرير العرب في إيران، فلماذا ندمر منازلهم ونخرب مدنهم، ولماذا يرفضون وجودنا؟

سقطت بعض القذائف قريبا منه. أمر جنوده باليقظة، وعاد الىملجئه تحت الأرض محاطًا بأكياس الرمل والحشرات والهواء الرطب، وتعاظمت الأسئلة في ذهنه: لماذا نحن هنا وما هو الهدف الحقيقي لهذه الحرب، ومن يملك قرارها؟

في المساء، استلقى على سرير من الحيرة تقض مضجعه أسئلة بلا إجابات. بدأت قطرات المياه الموحلة تسقط على السرير في ملجئه تحت الأرض.

يبدو أن السماء بدأت تمطر بغزارة وازداد صوت المطر المخلوط بطقطقة صفائح ملقاة قرب الملجأ، فبدت اصواتها كما لو أنهااصوات رصاص.

أخرج من جيبه صورة عائلية التقطها في آخر لقاء له بعائلته في حديقة الزوراء وسط بغداد. صوت المطر، أو ربما صوت الرصاص، بدأ يقترب.

توثب بشكل مفاجئ وتناول سلاحه، فالبسيج عادة ما يستغلون الطقس السيء لشن هجماتهم.

منذ ذلك الحين، اختفى أحمد مثل آخر خيط في المغيب ابتلعه ظلام الليل القاتم. وضاع بين البيانات العسكرية واخبار المعارك الطاحنة في الشوش.

وديان وتلال الشوش التي لا يملك خرائطها تحولت الى رحى تطحن أجساد الجنود الغارقين في وحل ليلة مطيرة، ولم يبقَ من العقيد أحمد سوى ظرف بني مهترئ، يحوي صوره العائلية.

أحدث المقالات

أحدث المقالات