بين القناعة والقناع ترابط لفظي وتطبيق عملي؛ فالقناعة كنز لا يفنى، أما القناع، فهو يتجلى في نماذج متعددة ومتدرجة من الرذيلة المجتمعية، تبدأ بالغش في المهن، وتصل إلى نموذج السلطة كما هو الحال في مفاسد المحاصصة. والسؤال هنا: من أين يبدأ مفهوم الإصلاح؟
يرمز هذا المقال إلى فكرة أن بداية الإصلاح تنطلق من المؤسسة الدينية ومرجعياتها العليا لاحزاب الإسلام السياسي.
عند إعادة قراءة كتاب نظام التفاهة للمؤلف الكندي ألان دونو، نجد أن الحقيقة التي يطرحها حول تفاهة القيم المجتمعية في عصر الذكاء الاصطناعي وتوحش الرأسمالية، ليست جديدة؛ فقد سبق لمفكرين إصلاحيين أن واجهوا توحش الاستعمار ثم الإمبريالية بشتى أشكالها. لكن الجميع اتفقوا على أن إصلاح تفاهة المجتمع الغربي يبدأ بإصلاح الكنيسة ثم النظام السياسي، وهو ما أدى إلى ظهور مفاهيم مثل “أحزاب المسيحية المجتمعية” و”أحزاب المسيحية الاشتراكية”.
ولكن…
في ظل التوحش الصهيوني المتجدد، الذي تجسّد في إدارة ترامب وشروطها لتسريع تنفيذ مشروع القرن الأمريكي الحادي والعشرين، وخصوصًا في فلسطين، نجد أن الاختبار يعيد نفسه، وهو الاختبار الذي فشل فيه العرب بعد وعد بلفور، ثم نكبة فلسطين عام 1948، ثم نكسة حزيران. هذا الفشل أفرز ثقافة التفاهة التي بدأت مع السينما المصرية ومسلسلاتها التلفزيونية، وتكرست أكثر مع سقوط نموذج المواطنة وسط تضارب الأجندات الفكرية بين القومية والشيوعية، وانتهى الحال بالإسلام السياسي، سواء في نسخته القائمة على “البيعة” أو على “التقليد”.
حتى يومنا هذا، تبرز علامة استفهام كبرى في العصر الصهيوني الجديد، حيث يواجه العالم العربي والإسلامي تحديًا يتمثل في تفاهة إدارة المعرفة. ففي الوقت الذي يشهد فيه العالم ابتكارات هائلة في الذكاء الاصطناعي، لا يزال البعض منشغلًا باجترار الخلافات التاريخية منذ سقيفة بني ساعدة وحتى اليوم، بهدف تسويق تفاهة السلطة. ويبرز النموذج العراقي مثالًا صارخًا لهذا الواقع، حيث تتوالى فضائح الفساد، مثل “سرقة القرن”، وغيرها من الفضائح التي تعكس تفاهة التعامل المجتمعي مع الفساد، في ظل ازدياد أعداد حملة الشهادات العليا في الجهاز الحكومي، دون أن يكون لذلك أثر يُذكر على حوكمة الدولة أو تحسين معيشة المواطن اليومية.
لقد أصبح معظم أصحاب الدرجات الخاصة يحملون ألقاب الدكتوراه، ليس نتيجة اجتهاد أكاديمي، بل لأنهم حصلوا عليها أثناء توليهم مناصبهم كوظائف عليا، وليس كطلاب دراسات عليا.
هذا الواقع يعكس ترسيخًا لنظام التفاهة المجتمعية داخل النظام العشائري، حيث تعقد المؤتمرات، وتُصدر البيانات التي تدعو إلى التآخي والحد من مظاهر التفاهة في الفصول العشائرية، التي أُضفيت عليها الشرعية القانونية. ولكن في الواقع، نجد أن هناك ترابطًا وثيقًا بين عوائل الأحزاب الفاسدة وشيوخ وأمراء القبائل، الذين يقولون ما لا يفعلون؛ ففي العلن يرفعون شعارات الإصلاح، وفي الخفاء يمارسون كل أنواع الفساد المجتمعي تحت غطاء تلك الأحزاب.
وهنا، نستذكر المقولة الشهيرة: “كيفما تكونوا يولَّ عليكم”، وكذلك: “الناس على دين ملوكهم”. وأي مراجعة لكتاب أربعة قرون من تاريخ العراق، ترجمه جعفر الخياط، ومقارنته بكتاب نظام التفاهة، ستقودنا إلى نتيجة واضحة: أي حديث عن الإصلاح الشامل في العراق اليوم يجب أن يبدأ بإصلاح المؤسسات الدينية ومرجعياتها العليا.
لكن هذا الإصلاح يواجه عائقًا خطيرًا، يتمثل في تعامل المجتمع مع رجال الدين، الذين يُنظر إليهم باعتبارهم وكلاء عن رب العالمين سبحانه وتعالى في الزمن الحاضر، دون وجود رؤية مستقبلية لعراق موحد، يكون وطنًا للجميع، بعيدًا عن اجترار التناقضات التاريخية التي تتكرر على المنابر الدينية. فالله رب واحد لجميع خلقه، لكن مصالح الناس في دولهم متناقضة. وأي مشروع إصلاحي حقيقي لمواجهة التهديدات الصهيونية المتجددة لا يمكن أن يتحقق عبر اجترار الخلافات التاريخية، لأن ذلك يصب في صميم مصلحة الصهيونية ومشروعها الجديد.
بهذه الطريقة، احتُلت العراق من قبل الولايات المتحدة، بفضل أحزاب الإسلام السياسي التي جاءت على ظهر الدبابات الأمريكية، ثم أعقب ذلك النفوذ الإقليمي الإيراني، والتركي، والخليجي.
اليوم…
المطلوب هو إسقاط أقنعة التفاهة عن المؤسسات الدينية ومرجعياتها العليا التي تمثل الإسلام السياسي، والقيام بفرز واضح بين أصول الدين وبين مصالح عوائل الأحزاب السياسية في نظام مفاسد المحاصصة. من دون ذلك، سيبقى العراق، ومعه الأمة العربية والإسلامية، عالقين في دوامة النكسات المتكررة.
ويبقى القول: “لله في خلقه شؤون”!