3 فبراير، 2025 5:56 ص

خديعة الانتصار: كيف زيفت القيادات السنية حقيقة قانون العفو العام

خديعة الانتصار: كيف زيفت القيادات السنية حقيقة قانون العفو العام

بعد جدال طويل وخلافات سياسية عميقة، جاء إقرار سلة القوانين الثلاثية، بما فيها قانون العفو العام، في مشهد بدا للوهلة الأولى كأنه انتصار تاريخي، حيث تسابقت الأطراف السنية لاحتساب الفضل في إقرار هذا القانون، فالحلبوسي حاول استباق الأحداث بإعلان تعليق حضور كتلة تقدم جلسات البرلمان لحين إقرار القانون، بينما انطلقت كتلة السيادة للإعلان عن هذا الإنجاز فور التصويت، وكأنها في سبق صحفي، حيث لم ينتظروا حتى تفرغ باحة منصة المؤتمرات من النواب الذين كانوا يخرجون من القاعة، أو أن يحضر جميع أعضاء السيادة للمشاركة في المؤتمر، حتى القى النائب سالم العيساوي كلمته بالمباركة والتمجيد بجوار محمود المشهداني لهذا الإقرار.
ومع انتهاء بيان المباركة والتمجيد، بدأت حملات الترويج لهذا الإقرار عبر مواقع التواصل الاجتماعي وكأنه انتصار وطني أو تحول تاريخي في السياسة العراقية، بل تجاوز ذلك حين صرح النائب زياد الجنابي بأن “الشايب” محمود المشهداني، في عشر دقائق فقط، استطاع إقرار سلة القوانين الثلاثية وهو ما اعتبره الجنابي فخرًا لا يُضاهى وأسطورة في العمل السياسي العراقي.
لكن وراء هذه البروباغندا الإعلامية، هناك حقيقة أخرى، فالعشرة دقائق التي استغرقها المشهداني في تمرير القانون لم تكن مجرد وقت ضائع أو استجابة لقرار سياسي معقد، بل كانت لحظة من لحظات الهدم الاجتماعي والقيمي للمجتمع العراقي، فالقانون، الذي يُحتفل به الآن كإنجاز، ليس سوى جزء من سلة قوانين ثلاثية ستترك آثارًا سلبية على القيم الاجتماعية والسياسية في العراق، وستمتد آثارها لعقود من الزمن سواء على جماهير هذه القيادات السنية او جماهير القيادات الشيعية والكردية ككل.
قانون العفو: حيث لا عفو على السنة
يُعتبر إقرار قانون العفو العام الحالي هو الإقرار الثالث الذي تقدمت به القيادات السنية حيث سبق وتم إقرار قانون العفو العام في عام 2008 في إطار سلة قوانين ثلاثية شملت العفو العام مقابل تمرير قانون الموازنة العامة وقانون المحافظات غير المنتظمة في إقليم، أما الإقرار الثاني حصل في عام 2016 ضمن صفقة سياسية مطولة تم فيها تمرير قانون هيئة الحشد الشعبي وقانون حظر حزب البعث، واليوم لا يختلف السياق أو المبدأ عما سبق، اذ تم إقرار قانون العفو العام مقابل تمرير قانون العقارات لصالح القوى الكردية وقانون الأحوال الشخصية لصالح القوى الشيعية.
في كلا الاقرارين السابقين، لم يُنصف القانون المعتقلين من المكون السني الذين وُجهت إليهم اتهامات بقضايا الإرهاب، وهذه المرة على ما يبدو لن ينصف أيضا بحسب ما أكد رئيس كتلة الصادقون النيابية، حبيب الحلاوي في تصريح له، “الشيعة المشمولين بالعفو سيفتح لهم الباب للخروج، لكن لا يوجد سني مشمول بالعفو سيخرج”.
وهذا يطرح تساؤلًا جديًا حول جدوى إصرار القيادات السنية على إعادة طرح هذا القانون للمرة الثالثة، رغم أنه ينتهي بمقايضة يخسرونها في كل مرة، فلماذا لا تبادر هذه القيادات إلى السعي نحو إقرار قوانين تتضمن إصلاحات جذرية في المؤسسات الأمنية والقضائية، التي كانت أساسًا وراء اعتقال هؤلاء الأبرياء مثل إقرار قانون حماية المدنيين، أو على الأقل تبني اقرارات جوهرية تتضمن إطلاق سراح المعتقلين خلال فترة حكومة المالكي، سيما وأن غالبية المعتقلين في السجون تم احتجازهم في تلك الفترة التي اتهمت فيها الحكومة بالتعسف الطائفي، وفقًا لتقارير العديد من المنظمات الحقوقية مما يعطي بعدا واقعياً للإقرار ويحد من حساسية هذا الملف.
قانون العفو: صفقة تلحق كركوك بجرف الصخر
لا تقف عواقب صفقة القوانين الثلاثية عند ما تم ذكره سابقًا من فشل ذريع، بل تتجاوز ذلك إلى ما هو أكثر خطورة، حيث يستمر إقرار قانون العفو مقابل دفع أثمان أشدّ تعقيدًا، أحد أبرز هذه الأثمان يتمثل في إقرار قانون إعادة العقارات للكرد، وهو ما يهدد بتهجير نصف مليون إنسان من محافظة كركوك، كما صرح عضو المجلس العربي في كركوك، عزام الحمداني. فيما صرح مسؤول هيئة الرأي العربية في كركوك، ناظم الشمري، بأن قانون العقارات الذي صوّت عليه البرلمان سيؤدي إلى تهجير سكان 170 قرية، وهذه الأراضي تم التعاقد عليها منذ 70 عامًا، وتعود ملكيتها للدولة.
أما المجلس العربي في كركوك، فقد أصدر بيان عقب إعلان إقرار القانون جاء فيها أن القانون المقر يتيح مصادرة 116,856 دونمًا من الأراضي الزراعية لتُمنح لفئة قليلة تدعي أنها متضررة من قوانين الإصلاح الزراعي والتوسع الحضري قبل عام 1979، مشيرًا إلى أن العديد من هذه الفئة قد تم تعويضهم بالفعل عند الاستملاك، في حين فشل بعضهم في إثبات صحة ادعاءاته أمام هيئة دعاوى الملكية.
بعيدًا عن وجهات النظر الكردية أو العربية، فإن الواقع الحالي وما يفرضه من حساسية في هذا الملف كان يستوجب اتخاذ قرارات تشريعية أكثر حكمة لمعالجة الملف عبر تشكيل لجان دولية أو وطنية للتحقيق في التفاصيل وسياقات هذا الملف، ومن ثم العمل على إعادة الحقوق لأصحابها وفق مبادئ العدالة الانتقالية ومبادئ السلم المجتمعي، إلا أن الإقرار جاء خلافًا لذلك دون أي مراعاة لتأثيرات التغيير الديمغرافي التي يخلفها القانون أو تسببها بالتهديدات التي ستمس السلم المجتمعي في كركوك، والتي سبق وشهدت تجارب مريرة من صراعات ديمغرافية في أعوام 2003 و2008 وحتى 2017، مما ينذر باحتمالية حدوث صدامات بين الأهالي لا تُحمد عقباها نتيجة هذا القانون.
من جانب آخر، كشف إقرار القانون عن مفارقتين لافتتين تتجاوزان حدود محافظة كركوك الإدارية. الأولى أن قوى الإطار التنسيقي، بكامل أدواته الإعلامية، تجاهلت عمدًا انتقاد هذا القانون، بل ذهب بعضهم إلى الإشارة ضمنيًا إلى أحقية “إصلاح” الواقع الديمغرافي في كركوك، في حين سبق أن تبنّى الإطار مواقف مغايرة تمامًا تجاه قضايا التغيير الديمغرافي التي شهدتها ديالى وصلاح الدين في السنوات الأخيرة.
أما المفارقة الثانية، فتكمن في موقف القيادات السنية، التي لطالما رفعت شعار “المظلومية السنية” للمطالبة بين الحين والآخر باستعادة مناطق مثل جرف الصخر والعوجة، لكنها في المقابل توافق اليوم على إقرار قانون من شأنه تهجير الآلاف من السنة العرب في كركوك.
قانون الأحوال الشخصية: تهديد للحقوق الاجتماعية والإنسانية
اما القانون الثالث او الثمن الثالث لقانون العفو العام هو قانون الأحوال الشخصية، الذي ينص على أن المحاكم المختصة في مسائل الأحوال الشخصية يجب أن تطبق مدونة الأحكام الشرعية، مما يعني أن القضايا المتعلقة بالأطفال، والميراث، والأسرة، والحقوق الأخرى ستكون خاضعة لمحاكم تستند إلى مرجعيات مذهبية متعددة وبالتالي، ستكون هذه القضايا تحت تصرف اجتهادات رجال الدين، الذين غالبًا ما يفتقرون إلى التأهيل الكافي لممارسة دور تشريعي معاصر، بدلاً من أن تُعرض أمام قوانين ومحاكم مدنية.
بالتالي، لن نكون أمام تعديلات قانونية تتعارض مع القيم الإنسانية والحقوقية المعاصرة فحسب، بل سنواجه أيضًا آثارًا صحية ونفسية سلبية على النساء خاصة القاصرات، فضلاً عن مساهمتها في ترسيخ ثقافات اجتماعية ضارة تؤثر ليس فقط على المرأة، بل على المجتمع ككل، وذلك وفقًا لما أكدت عليه العديد من التقارير من هيئات ومنظمات دولية منذ الإعلان عن هذا المقترح في عام 2014، فيما اشارت تقارير اخرى إلى أن العراق قد يواجه خطر الخروج من العديد من الاتفاقيات الدولية المتعلقة بالأسرة والطفل، الأمر الذي سيكون له تداعيات كبيرة يصعب حصرها على جميع المكونات في العراق.
أما بالنسبة للمخاوف الأخرى، فقد أبدت التيارات المدنية المعارضة لهذا القانون قلقها من كونه مشروعًا يهدف إلى مذهبة الدولة وتعزيز دور المؤسسات الدينية، مما يعزز الطائفية الدينية اجتماعيًا ويُضمن تحكم هذه المؤسسات في المجتمع، فيما بالغ البعض في وصف القانون بأنه يهدف إلى تكريس النفوذ الإيراني في العراق عبر التشريعات والمؤسسات الدينية، مما يشكل تهديدًا للسلم المجتمعي في العراق بشكل عام.
قانون العفو مرة اخرى: فوضى قانونية تهدد الأمن الاجتماعي
إن القانون الذي شمل 74 فئة من الجرائم، من بينها قضايا متعلقة بالإرهاب مع إمكانية إعادة المحاكمة، بينما تميل الجرائم الأخرى البالغ عددها 72 إلى العفو المباشر، يعكس ازدواجية واضحة في معالجة الجرائم ومفاهيم العدالة، خاصة وأن غالبية هذه الجرائم تمثل اضطرابات نفسية أو سلوكيات منحرفة يصعب معالجتها بسهولة، لكن المشكلة لا تتوقف عند طبيعة هذه الجرائم أو الازدواجية التي تحيط بها، بل تكمن في إقرار قانون لم يأخذ بالمبادئ والنظريات الاجتماعية والنفسية ويُخالف التجارب الإصلاحية الناجحة مما يضع العراق امام مخاوف من ارتفاع مقبل لمعدلات الجريمة وانعدام الامن خاصة وان القانون لم يتضمن أي إجراءات رقابية أو عقوبات رادعة لمن يعيد ارتكاب الجرائم.
وتزداد هذه المخاوف في ظل الواقع المأساوي الذي تعيشه السجون العراقية والتي تتجاوز نسبة اكتظاظها 300% والتي أصبح العديد منها مدارس للجريمة بدلاً من أن تكون سجونًا إصلاحية، كما تكشف التقارير أو ما يُنشر من مقاطع مسربة على مواقع التواصل الاجتماعي.
كما أن القانون لم يراعِ توفير ضمانات تعويض عادلة للضحايا أو تقديم مشاريع صغيرة للسجناء تتيح لهم فرصة للعمل والكسب، في ظل الانهيار الاقتصادي وارتفاع معدلات البطالة، مما يجعل من الصعب على هؤلاء السجناء إعادة الاندماج في المجتمع وبدء صفحة جديدة، وهذا بدوره يتركهم عرضة للعودة إلى الجريمة، خاصة أن القانون لم يتضمن أي التزامات واضحة بشأن إعادة إدماجهم بعد خروجهم، سواء من خلال برامج تأهيلية تنفذها منظمات المجتمع المدني أو المؤسسات الحكومية، لضمان اندماجهم وتجنب تحولهم إلى تهديد لحياة الآخرين وممتلكاتهم.