تُعتبر الخمسة عقود الماضية فترة غنية بالتغيرات والتحولات في المجتمعات الشرق أوسطية. إذا نظرنا للخلف إلى الخمسين عاماً التي مضت، سنجد أن هذه الفترة شهدت العديد من الأحداث المهمة. شهدت المنطقة حروباً وصراعات من الحرب الأهلية اللبنانية، الحرب العراقية، الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، الى تغيرات انظمة سياسية، بما في ذلك الثورات والانتفاضات. تأثرت اقتصاديات الدول بشكل كبير نتيجة لتقلبات سوق النفط، مما أدى إلى تغييرات جذرية اقتصادية واجتماعية. في المقابل يمكن أن نتوقع أن تتوجه هذه المجتمعات الشرق أوسطية خلال الخمسين عاماً المقبلة نحو سياقات اخرى،منها ظهور قوى سياسية جديدة في الشرق الأوسط، ان تزايد عدد الشباب في المنطقة يؤدي إلى ظهور قوى سياسية جديدة تعبر عن تطلعاتهم واحتياجاتهم، الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي تسهم في تنظيم الحركات السياسية وظهور قيادات جديدة، الأزمات الاقتصادية تدفع إلى ظهور حركات تسعى لتغيير الأوضاع الاقتصادية والسياسية، التغيرات في العلاقات الدولية والضغط الخارجي تعزز أو تقوض قوى سياسية معينة. بناءً على هذه العوامل، سنشهد ظهور حركات سياسية وثقافية جديدة أو محولات تجديد القوى القائمة، مما يعكس طبيعة التغيرات المستمرة في الواقع السياسي والاجتماعي في المنطقة. التفكيك في الخمسين عاما الماضية كان نتيجة التدخل الثقافي والاقتصادي الاستعماري في المنطقة، ” التفكيك” في نظرية جاك دريدا يتعامل مع تحليل النصوص والأفكار بطريقة تكشف عن التناقضات والأبعاد الخفية وهذا ينطبق ثقافيا واجتماعيا. في سياق الخمسين عاماً الماضية من التدخل الثقافي الاستعماري في الشرق الأوسط، يمكن تناول هذا المفهوم من عدة زوايا، شهدت المنطقة تدخلات ثقافية من قوى استعمارية سابقة، مما أدى إلى فرض نماذج ثقافية وأيديولوجيات معينة، حاولت القوى الاستعمارية بها إعادة تشكيل الهويات الثقافية للسكان المحليين، مما أدى إلى تأثيرات طويلة الأمد على الثقافة واللغة وظهرت هويات جديدة تتداخل مع الهويات التقليدية، مما أدى إلى تفكيك الهويات السائدة. استخدم مفكرون مناهج التفكيك لتثبيت الروايات الاستعمارية وكشف التناقضات في الخطابات الثقافية السائدة في السياق الشرق أوسطي، واعتبرت الاختلافات الثقافية والسياسية مصدراً للصراع، وفرصة لإعادة التفكير في الهويات. استخدمت أدوات دريدا لفهم النصوص التاريخية والسياسية بطرق جديدة، مما سمح بتفكيك السرديات وإعادة تفسيرها من خلال تفكيك مركزية النص ،بهذا تمكن الباحثون من العمل على كيفية تشكيل هويات ثقافية وسياسية في المستقبل والنظر اليها كأنها خارج التأثيرات الاستعمارية. بذلك، وفر مفهوم ” التفكيك” أداة قوية لفهم مستقبل التعقيدات الثقافية والسياسية في الشرق الأوسط خلال الخمسين عاماً القادمة وهي إعادة التفكيك بالتفكيك، غير انه عزز من أهمية النقد والتحليل في مواجهة تأثيرات الاستعمار الثقافي. تمكنت الاستعمارية في السنوات الخمسين الماضية من انتاج ثقافة مفككة، وقامت على تمكين الرؤيا الطائفية المتطرفة وعزل الخطاب الضد استعماري. كون السنوات الخمسين الماضية فترة حاسمة في تشكيل الثقافة السياسية والاجتماعية في العديد من المجتمعات الشرق أوسطية من خلال اليات النظر إلى كيفية تطور الأفكار عبر الزمن وكيف تؤثر الأحداث التاريخية على الفكر الحالي، عملت القوى الاستعمارية على تعزيز الهويات الطائفية كوسيلة لتفكيك الوحدة الوطنية، مما أدى إلى صراعات داخلية، استخدمت الاستعمارية التوترات الطائفية كأداة للتحكم، مما ساهم في تفكيك المجتمعات وزيادة الانقسامات، ساهم الخطاب الاستعماري في تعزيز الهويات الضيقة على حساب الهوية الوطنية الشاملة، مما أدى إلى عزل الأصوات المناهضة للاستعمار، غالبًا ما تم قمع الخطابات التي تدعو إلى الوحدة والمقاومة ضد الاستعمار، مما أعطى الأولوية للخطابات الطائفية، لعبت وسائل الإعلام دورًا مهما في تشكيل الرؤى الثقافية، حيث تم تعزيز الخطابات الطائفية والمتطرفة على حساب الخطابات الشاملة. تم إنتاج أعمال فنية وثقافية تعكس الانقسامات الطائفية بدلاً من تعزيز الوحدة والتنوع. أدت السياسات الاقتصادية إلى تهميش فئات معينة، مما ساهم في تعزيز الهوية الطائفية كوسيلة لتلبية الاحتياجات الاجتماعية. استثمرت القوى الاستعمارية في تعزيز الفروقات الاجتماعية والطائفية لتحقيق مصالحها. عانى الخطاب المضاد للاستعمار من صعوبات في التعبير عن نفسه، حيث تم تجريده من الفعالية المناسبة في الدعوة إلى الوحدة. قوبل الخطاب المضاد لقوى الاستعمار بنقص في الدعم الدولي، مما قلل من قدرته على التأثير. أدت هذه الديناميكيات إلى تفكيك الهوية الثقافية العامة، حتى أصبحت الجماعات تتبنى هويات ضيقة تعكس انقساماتها. من خلال هذه الديناميكيات تمكنت الاستعمارية من إنتاج ثقافة مفككة تتداخل فيها الهويات الطائفية مع التحديات الاجتماعية والسياسية، مما جعل من الصعب تحقيق الوحدة والتضامن في مواجهة الاستعمار بناء خطاب مضاد. بناء خطاب مضاد لمواجهة الثقافة المفككة يتطلب جهودًا متعددة الأبعاد. يجب التركيز على أهمية التنوع الثقافي والعرقي كقوة، وليس كضعف و تعزيز فكرة أن الهوية الوطنية تشمل جميع الفئات ،تطوير سرديات تروّج لقيم التضامن والوحدة، مع التأكيد على التاريخ المشترك والتجارب التي تربط المجتمعات، تحليل كيف تستخدم القوى الاستعمارية الطائفية والنزاعات العرقية كأدوات للهيمنة، تقديم بدائل لهذه السرديات ،كشف التناقضات في الخطاب الاستعماري، تحليل كيف ساهم في تفكيك المجتمعات بدلاً من بنائها تطوير مناهج تعليمية تعزز من الفهم النقدي والتفكير المستقل، مع التركيز على التاريخ والثقافات المتنوعة في المنطقة، تنظيم حملات توعية تعزز من قيم التعايش والسلم، تسليط الضوء على مخاطر الانقسامات الطائفية، تعزيز حقوق الإنسان كجزء من الخطاب المضاد، مما يشكل قاعدة قوية لمواجهة التحديات ،إبراز النماذج الإيجابية من المجتمعات التي نجحت في التعايش السلمي، مما يوفر نماذج يحتذى بها. من خلال هذه الخطوات، يمكن بناء خطاب مضاد فعال يساهم في مواجهة الثقافة المفككة التي استغلها الاستعمار، ويعزز من مساعي النهوض والتقدم في المجتمعات الشرق أوسطية، بعض السرديات الشرق اوسطية تحمل في بنيتها الداخلية( تفكيكية مستقرة )من خلال مشاريع اللاوطنية والتحيز، هذا يتطلب منهجًا نقديًا شاملًا وتحليلا النصوص الأدبية والسياسية والإعلامية لفهم كيف تعكس هذه السرديات تحيزات معينة أو تدعو إلى اللاوطنية، تحديد الأيديولوجيات الكامنة وراء هذه السرديات، وكيف يمكن أن تُستخدم لتعزيز الانقسامات و التوترات ،العمل على تطوير سرديات تعزز من الهوية الوطنية الشاملة التي تشمل جميع الفئات، بدلاً من التركيز على الهويات الضيقة ،إبراز أهمية التعددية الثقافية والعرقية كقوة إيجابية، وليس كسبب للانقسام، تشجيع النقاشات العامة حول إعادة السردية التاريخية للمنطقة وتجاربها، مع إجراء نقد ذاتي للخطابات السابقة التي تكون ساهمت في تعزيز اللاوطنية ،مواجهة الانطباعات السلبية عن المجتمعات المحلية، والعمل على تصحيح المفاهيم الخاطئة ،إنشاء منصات للحوار بين مختلف المكونات الثقافية والعرقية، مما يعزز من الفهم المتبادل ويقلل من التوترات، دعم المشاريع التي تجمع بين المكونات المختلفة، مما يسهم في بناء روابط قوية، استخدام الأدب والفن كوسيلة لنشر رسائل تعزز من الوحدة الوطنية وتفكيك السرديات السلبية، إنتاج أعمال فنية تسلط الضوء على قضايا التعايش وتعبر عن تجارب إيجابية .هناك العديد من السرديات التي يمكن أن تعزز اللاوطنية في منطقة الشرق الأوسط، منها السرديات التي تركز على الانتماءات الطائفية وتبرز الاختلافات بين الطوائف، مما يؤدي إلى تعزيز الانقسام وعدم الانتماء للوطن ككل، تُستخدم هذه السرديات لتبرير الصراعات الطائفية، مما يضعف الهويات الوطنية المشتركة، بعض السرديات القومية تروج لفكرة تفوق مجموعة معينة، مما يؤدي إلى إقصاء الأقليات وعدم الاعتراف بتنوع الهوية الوطنية، تُستخدم هذه السرديات لإعادة تعريف مفهوم الوطنية بطريقة تهمش بعض الفئات، تروج بعض الخطابات لثقافات معينة على حساب الثقافات المحلية، مما يعزز من مشاعر اللاوطنية ،تُظهر هذه الخطابات الهويات الأصلية كضعيفة أو غير صالحة بالمقارنة مع ثقافات المستعمر، تركز بعض السرديات على الفوارق الاقتصادية والاجتماعية، مما يُضعف الانتماء الوطني ويعزز من الشعور بالاغتراب ،بعض السرديات السياسية تستغل الخلافات الداخلية لتعزيز مواقف معينة، مما يؤدي إلى تفكيك الهويات الوطنية، تُستخدم هذه الخطابات لتبرير الانفصال عن الهوية الوطنية لصالح هويات أخرى، تساهم بعض وسائل الإعلام في نشر معلومات مضللة تعزز من الانقسامات، مما يؤثر سلبًا على الهوية الوطنية، تُستخدم منصات التواصل الاجتماعي لنشر الكراهية والتحريض، مما يعزز من مشاعر اللاوطنية، بعض الأعمال الأدبية والفنية تركز بشكل مفرط على المعاناة الفردية ، دون تقديم حلول أو رؤى إيجابية، مما يعزز من الإحساس بالانفصال عن الوطن تُعتبر هذه السرديات تحديًا كبيرًا في بناء هوية وطنية شاملة تعزز من الانتماء والتضامن بين مختلف الفئات في المجتمعات الشرق أوسطية. هذا التوزيع المرحلي سيكون موضوعًا غنيًا للنقاش والتحليل، حيث تتداخل فيه العوامل السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية والمخططات الاستعمارية المرسومة لممارسة تفكيك التفكيك في السنوات الخمسين القادمة.