عَذَلَ يعني لامَ , ((عَذَلَ رفيقَه )) , يضرب المثل القائل : (( سَبَقَ السيف العَذَلَ )) في انقضاء الأمر وعدم جدوى اللوم أو العتاب , كما ان العاذِلُاسم العِرْق الذي يَسِيلُ منه دَمُ المستحاضة , وفي بعض الحديث : تلك عاذِلٌ تَغْذُو , يعني تَسيلُ , ورُبما سُمِّي ذلك العِرْق عاذِراً , بالراء , وقد تقدم وأُنِّث على معنى العِرْقَةِ , وجمع العاذِلِ العرقِ عُذُلٌ مثل شارِف وشُرُف  .

تُعتبر اللغة العربية بحر اللغات والحروف , وتمتاز بالفصاحة والمعاني الكثيرة والمميزة , واشتهر العرب عبر التاريخ بالشعر والمعلّقات والأمثال التي وُجدت بسبب قصة أو طرفة , ودائماً ما تحمل معاني هذه الأمثال الكثير من الحكم والعبر المستفادة , وغالباً ما تكون هناك قصص وراء هذه الأمثلة , مثل قصة المثل الشهير: (( سبق السيف العذل)) , وهو يضرب في حالة التسرع في إصدار القرارات وتنفيذها دون التفكير جيداً قبلها , كما أن البعض يطلقه لمنع الإكثار في الكلام حول إحدى المسائل وإلقاء اللوم وعتاب أحد الأشخاص لتنفيذ أمر ما , ومطلق هذا المثل هو  ( ضُبَّة بن أَدِّ بن طابخة بن إلياس بن مضر) , وكان ضبّة راعياً يملك قطيعاً من الإبل , وكان لديه ابنان سعد وسعيد , وفي إحدى الليالي بدأت الإبل بالتفرق , فطلب ضبّة من ولديه إرجاعها , وبعد ساعات طولية عاد سعد بالإبل لكنّ سعيداً لم يعد مطلقاً , وبعد فترة زمنية خرج ضبة إلى السوق لشراء حاجياته , وخلال تسوقه لمح رجلاً يضع عليه لباساً شبيهاً بلباس نجله المفقود , فسأله ضبة عنها , فكان جواب الرجل الذي يدعى الحارث بن الكعب أنها لفتى قتله على الطريق بعد أن طلبها منه ورفض , عندها علم ضبة أن نجله هو القتيل , فلم يُظهر أيَّ رد فعل وطلب من الحارث سيفه , فأعطاه دون أن يعلم أنه يقف أمام والد ضحيته , ليقوم ضبة بقتل الحارث بعدها , فاجتمع الناس على القتيل ولاموا قاتله بسبب استعجاله بذلك , عندها أطلق مقولته (( سبق السيف العذل)) , فأصبح المثل قولًا شهيرًا منذ ذلك الحين.

من روائع عنترة بن شداد قصيدته (( حكم سيوفك في رقاب العذل , وإذا نزلت بدار ذل فارحل , وإذا بليت بظالم كن ظالما , وإذا لقيت ذوي الجهالة فاجهل )) , وكأن عنترة يصف حال وطننا في هذا العصر, فالعالم يريدنا ضحايا سواء كأفراد أو كقيمة مجتمعية , نرى الصمت والتعامي الدولي عن الاعتداءات السافرة والتجنيات على هذا الوطن وكأنهم في انتظار هذه اللحظة ,  مخيف جدا أن لا تدرك أنك مُحارب , بل يحاك لك الشر ليل نهار , فلا ينبغي السلم مع أهل الشر , لهذا مضاعفة القوة الدفاعية عن هذا الوطن مباركة وضرورة , وقد حان الوقت لأن يندمج كافة أطياف المجتمع بالخط الدفاعي , بدلا من انتظار المجهول , وفعلا كما قال عنترة فأن الابتلاء بالظالمين لا يدفعه إلا القوة , والقوة التي نعنيها هنا ليست فقط القوة العسكرية , بل قوة العلم والإعلام والصحة والفكر , وأراهن أن التركيز على قوة الفكر في السنوات العشر القادمة سيعيد هيكلة المشهد السياسي في هذه المنطقة , ولو انه لا يزال البعض يستخدم السرديات القديمة بأننا رعاة غنم وأننا لولاهم لكنا نكرات , نحن لا نخجل أن نكون رعاة غنم وإبل وخيل , بل كنا ولا زلنا نمتلكها ونتباهى بها , لكن زدنا عليها بالعلم والحضارة والقوة.

العذل في الشعر, نسق من الصياغة الشعرية , يستحضر فيه الشاعر صوتا آخر غير صوته المباشر أو يجرد من نفسه نفسا أخرى يحاورها على سبيل التقليد الفني المتوارث الذي لا يعرف جذره , مثلما وقف الشعراء على الطلل و بكوا الضعن و كلموا الحجارة و الأثافي، كل ذلك على سبيل التقليد الفني، و العذل الذي يجابه الشاعر يصدر دوما عن امرأة, لأن اللوم و الملاحاة و العذل اقرب إلى نفوس النساء منه إلى نفوس الرجال , و العذل يدور حول مواقف من بعض القضايا الاجتماعية مثل الإفراط في شراب الخمور , و الإسراف في الكرم ,  وركوب الأهوال و السفر , والتغرب  , والشيب , وغيرها , يلح الشعراء القدامى على موضوعات بعينها و يكثرون من طرقها , من ذلك حقيقة أن النساء يحببن المال و يفتدين صاحبه بالغالي و النفيس , أن عصيان العاذلة من مفاخر الشعراء إذ صرحوا بهذا في مواضع كثيرة  , عدوا عصيانهم لعواذلهم دليل رسوخ إيمانهم بأفكارهم , واعتزازهم بسلوكهم , وقد كشف هذا الاتجاه عن رؤية العربي للحياة , ولفكرة البطولة , فقد رأى أن الحياة السامية تقوم على مواجهة الهائل من الأمور , وترفض الكائن المألوف , وترى في الاعتدال عجزاً , وأن الحياة العالية تقوم على القوة , ولا يتصور وجودها إلا وهي محاطة بالتهديدات.

يقول المتنبي : (( وَإذا العَذْلُ في النّدَى زَارَ سَمْعاً  فَفَداهُ العَذُولُ وَالمَعْذُولُ )) , ومن شعر ابي تمام((وعاذلٍ عذلته في عذله  فظنَّ أني جاهلٌ من جهلهِ )) , وللشريف الرضي قوله : ((قَدْ سَبَقَ السّيفُ عَذْلَ عاذِلِهِ  لمَّا تَجَارَى الحُسَامُ والعذل ) , أو كما يقول عماد الدين ألأصبهاني : (( مضرية عذلت على حب الندى من ليس يسمع فيه عذل العاذل)) , وهناك قول عبد الغفار الأخرس : (( وعذرتها وعذلت عاذلها  والعذل بيَّنَ بَيِّنَ العذر)) , كما ان لصفي الدين الحلي :   ((عذلُ العواذلِ في هواكَ مضيعُ،  هَبْ أنّهم عذَلوا، فمن ذا يَسمعُ)) , وقد قيل  : وَشَرُّ الْعَذِيلَةِ عَذِيلَةُ أَحَدِكُمْ نَفْسَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ.   

أحدث المقالات

أحدث المقالات