من الشذرات الفكرية الرائعة والتي جادت بها قريحة الفيلسوف الالماني الكبير فريدريك نيتشه مقولته الشهيرة : (( العقل الحر، الذي لم يتعوّد على تبعيّة أحد، يحدث ضجيجاً في أي مكانٍ يتواجد فيه. ))
يرى فردريك نيتشه أن الفرد المتفوق والواعي يتمرد على القيم الاجتماعية ويعارض المسلمات الشعبية ،و التي تعبر عن التبعية ؛ اذ يسعى الفرد صاحب العقل الحر إلى تحقيق ذاته ؛ وبناء افكاره بجهده وبحثه ؛ وعلى الرغم من البعض قد يعتقد أن هذه الأفكار تبدو بسيطة، الا ان أصعب ما يواجهه الفرد هو أن يكون ذاته ، ويخرج من ربقة التبعية والعبودية الفكرية والتقليد الاعمى .
إنّ من أكبر العوائق التي تقف بطريق تحرير العقول الذي هو مقدمة لتحرير المواطن ثم الوطن ؛ تصديق الاوهام والايمان بالخرافات والعمل بالعواطف والشعارات ؛ فهذه الامور تجعلنا كالأسرى والعبيد , وتضعنا في حلقة مفرغة لا نعرف منها خلاصاً ؛ وعليه تحرير العقل ليس بالأمر الهين … ؛ فالفيلسوف الالماني يعتقد ان الاوهام والخرافات والتقاليد البالية والافكار المتكلسة والرؤى الظلامية والمرتبطة بالتقديس والتعظيم والتحجر والتعصب ؛ أشد خطرا على المرء من العبودية ذاتها ؛ فهذه الامور كالحبل الملفوف حول عنق المرء الساذج والشخص البليد ؛ فكلما يتحرك يضغط الحبل على رقبته حتى يخنقه ويقضي عليه .
كثيرة هي الخسائر التي يتكبدها المرء جراء التفكير الحر وتحري الحق وقول الصدق ؛ وقد يدفع الانسان الموضوعي , والكاتب المحايد ؛ ضرائب باهظة بسبب مواقفه واقواله واراءه وافكاره ؛ فكأنما الحياة لا تكتفي بالشقاء الذي يعيشه المناضل الواعي والمفكر الحر ؛ وبالهزال الجسدي والتعب النفسي والقلق الوجودي الذي يصيب الشخص المختلف عن الاخرين والذي يسبح عكس التيارات الاسنة ولا يغطس في المستنقعات والبرك الضحلة ؛ ولذا قال فريدريك نيتشه : ((عندما نفكر كثيرًا وبذكاء لا يتغير الوجه فقط، بل إن الجسد بكامله يلبس الذكاء )) وانشد الشاعر العراقي المتنبي قائلا :
ذو العقلِ يَشقَى في النّعيمِ بعَقْلِهِ *** وأخو الجَهالَةِ في الشّقاوَةِ يَنعَمُ
وكذا قال :
وإذا كانت النفوس كبارا*** تعبت في مرادها الأجسامُ
فإذا قويت الهمة وكبرت النفس , واتقد الذهن , واتسعت الرؤية , وعظمت البصيرة , واستقلت الشخصية ؛ تعب الجسم في غاياتها ومطامعها وطموحها ، وترقّت به هذه الهمّة إلى معالي الأمور، ومراقي المجد، ومما لا شك فيه ان الجسم يتعب والجسد يذبل في سبيل الوصول إلى هذه المقاصد العظيمة والاهداف السامية ، بخلاف الفاشل البليد، والساذج فإنه قد ارتاح من هذا كله .
نعم لم تكتف الحياة بكل هذه العقوبات ؛ حتى عرضت الاحرار والاذكياء والافذاذ الى مختلف المضايقات والانتهاكات والمطاردات ؛ ولذا قال فريدريك نيتشه : (( لقد اعترضتني من المخاطر بين الناس ما لم أجد مثلها بين الحيوانات )) فكل من يخالف الجموع ويخرج عن ارادة القطيع ؛ يتعرض لشتى صنوف التسقيط , وتشن ضده الحملات القذرة , ويبعد عن امتيازات المراكز المدعومة والغرف السرية المشبوهة , ويحرم من عطاءات وزارة الثقافة ومنظمات المجتمع المدني والايفادات والارتباطات الخارجية , ولا يقرب من اصحاب القرار والنفوذ , ويقاطع من قبل كتاب القطيع والاقلام المأجورة والمنصات والمواقع المؤدلجة , فلا ينشرون له مقالة حتى وان كانت من اروع المقالات ومن اصدق الكتابات , فالكاتب الحر يعيش بين نارين ؛ نار الجهلة والاوباش والقطيع ونار الاقلام المأجورة والكتاب المرتزقة و اصحاب الاعلام المؤدلج ؛ وقد يذهب ضحية الطرفين ؛ فالخروج عن القطيع يحمل تبعات خطيرة على الفرد، ولذلك يميل الكثيرون إلى انحيازات معينة متأثرين بقيم الجماعة التي ينتمون إليها، ويتعاملون معها على أنها حقائق، وذلك في سبيل الحفاظ على الموقع ضمن الجماعة، مهما حمل الأمر من تناقضات أو مواقف مضادة .
بعض القوى واصحاب النفوذ يعملون على تسطيح الوعي وتغييب العقل , واستلاب عقول الجماهير , وزرع افكار معينة وعقائد محددة في عقول الناس , واجبار الناس على ترديد الشعارات الفئوية والايمان بالادعاءات السياسية كالبغبغاوات , ونشر الاوهام بين المواطنين ؛ بدلًا من التفكير العقلاني والمنطقي ؛ فهم يعملون والى هذه اللحظة وبمساعدة القوى المنكوسة والخارجية المشبوهة على صناعة الجهل وتكرير الوهم , ومحاربة الاصوات الحرة والاقلام الموضوعية واصحاب التفكير المستقل والنقدي .
البعض يشبه الاديان والافكار والأيدولوجيات بالسجون والتبعيات ؛ ليصل الى نتيجة مفادها : انه لا يوجد انسان ليست له تبعية , وبالتالي لا يوجد شخص حر ؛ فمن خرج من الاسلام الى المسيحية , او من الدين الى الالحاد , او من الاشتراكية الى الرأسمالية , او من الدكتاتورية الى الديمقراطية … الخ ؛ سيكون عبدا لتلك الديانة او الفكرة او الايدلوجية كما كان سابقا , وسيدخل سجن فكري اخر , ويدور في فلك تبعية اخرى , وهكذا ؛ الا ان هذا التشبيه بعيد كل البعد عن الواقع وحقيقة الامر ؛ فشتان بين من يتمسك بالعادات والتقاليد والشعارات والافكار من دون بحث وتمحيص ودراسة ومعرفة , ولا يبرح مكانه ولا يغير تفكيره مهما طرأت عليه الانتقادات العلمية والاشكالات الموضوعية ؛ وبين الذي يتخذ المنهج العلمي والمعرفة والتجربة نبراسا منهجيا ومعيارا علميا للتحول والتغيير والانقلاب .