سبق وان تم تعريف جلسات صالون الدكتور تحسين طه أفندي ألأسبوعية بأنها لاتعتمد على جدول نقاش معين مسبقا , بل تعتمد على منهجية عصف ألأفكار , واليوم روى لنا زميلنا في الحلقة ثامر كلاز حوارا دار بين المرحوم ثامر مطر مع المدمن على الشراب المعروف المرحوم عيسى والذي يعرفه أهالي بعقوبة بلقب ( ابو العيس ) لكثرة معاقرته الخمرة , وكان قد ترك الشراب أواخر حياته , ولما سأله ثامر : لماذا ترك الشراب ؟ أجابه ( ماكو نديم‎ ) , أجابة استوجبت كتابة هذه المقامة .

المُنادَمة هي مصدر نادَم , ويقال للشخص نديم , ومعناه الشخص المُصاحِب أو المُجالِس على الشراب أو غيره , ويقال أن (المُنادَمة) مقلوبة من المُدَامَنة , لأن الإنسان يُدمن شرب الشراب مع نديمه , وقد ذكر في بعض المعاجم أن ندماء مثل كرماء ونَدَامى , إلا أنه حدث تطور دلالي لكلمة (نديم) فأصبحت تعني المرافقة , والمسامرة بشراب أو بدونه , أو تُشتق كلمة النديم من النّدم , واختلفت الأقوال في شرح سبب نسبتها إلى الندم , ولعل أرجح إحتمال هو لأن النديم شخصٌ تـندم على فرُاقه , لما فيه من صفات ومواهب تجلب لك الأنس والراحة , ولذلك سمي نديما.
كان أول ظهور للمنادمة عند ملوك الفرس , حيث اهتمّوا بتقريب الندماء والجلساء , فجعلوا الندماء على ثلاث طبقات , وكل طبقة كان قُرب مجلسها من الملك على حسب مكانتها الاجتماعية والعلمية , الطبقة الأولى كانت من أبناء الملوك , والثانية من محدثي الملك أهل الشرف والنسب والعلم , والطبقة الثالثة من أهل الهزل والضحك والغناء , وقد كانوا يرون تقريب الندماء من باب علامات كمال الملوك , لذا كانوا يولونهم اهتمامًا شديدًا فيصطحبونهم في حلّهم وترحالهم , من خلال التجارة ووفود العرب التي كانت ترتاد بلاط الفرس والروم , وانتقلت بعض عاداتهم وتقاليدهم إلى الجزيرة العربية , غير أن بعض العرب كانوا على صلة بالبلاط البيزنطي , فامرؤ القيس وقس بن ساعدة نادموا وجالسوا قيصر الروم فيقول امرؤ القيس مفتخرًا: (( ونادَمْتُ قَيصَر في مُلْكه فأَوْجَهَني ورَكِبْتُ البَرِيدَا )) , إلا أنه مع قدوم الإسلام وتحريم الخمر الذي كان أساس وصفة ملازمة للمنادمة , حلّ محل المنادمة المجالسة , واستمرّ هذا الأمر حتى بعد وفاة الرسول وفي عصر الخلفاء الراشدين والعصر الأموي , حيث كان خلطاء الخلفاء يقومون بدور الجلساء والوزراء , فيستشيرهم الخليفة في أمور الدولة وغيرها , ويتحدثون في تعاليم الدين وعلمه , ولعل الاختلاف الواضح الذي حدث في هذه المجالس بعد الإسلام هو بساطتها بعد أن كانت معقّدة في مجالس الملوك السابقين عربًا وغير عرب .
في العصر العباسي تحوّلت المنادمة إلى مهنة لها شروطها وأحكامها , كون مجالس اللهو بطبيعتها كانت مزدهرة ومنتشرة بكثرة في العصر العباسي , فقاموا باتباع نهج الفرس في مجالس الندماء بجعلهم على ثلاث طبقات ورتب محددة , كانت مجالس اللهو والأنس والأدب يحضرها أنواع من الناس مثل الجواري والغلمان للمتع العاطفية , والموسيقيين والعازفين من أجل الطرب , والمهرّجين وغيرهم , أما الندماء فكانوا من أجل الاستمتاع الفكري والنفسي , وهذا كان أعلى رتبة من اللهو والأنس , لذلك كانوا يحظون بأهمية كبيرة واحترام وتقدير, وكانت مطمح المثقفين والأدباء وغايتهم , لم يُعرف عن أبي العباس أول الخلفاء العباسين كثرة المنادمة وحب الشرب , لذا كان يخرج للندماء بدايةً وبعدها احتجب عنهم , لكنه عُرِف عنه أنه لم يترك نديمًا أو مجالسًا إلا وقدّم له أعطية قبل خروجه من عنده , وجاء بعده أبو جعفر المنصور الذي احتجب تمامًا عن الندماء , وحاول المهدي أن يحذو حذوه لكنه لم يلبث أن ظهر لهم , كانت النقلة النوعية في ترف العباسيين في أيام هارون الرشيد بعدما ازدهرت الدولة , فأصبح النديم لأول مرة موظف في البلاط , له راتب خاص به عدا الجوائز والأعطيات التي تُقدَّم له من الخلفاء والأمراء الذين يجالسهم , وبعد هارون الرشيد ازدهرت المنادمة وكثرت في عصر الأمين , الذي كان لا يلقي بالًا بمن ينادمه ويجالسه , ولا يحتجب عن ندمائه.
يقول أبو نُواس في النديم الذي يرتاح إليه ويفضّله : (( ولي نَديمٌ ماجِدٌ لا أرتَضي عنهُ بديلاً كائناً مَنْ كانا , أخو فُكاهاتٍ متَى حاضَرتَهُ في مَجلِسٍ وَجَدتَهُ بُستانا , حُلوُ الحديثِ وإن غنّاكَ لمْ تَجِدْهُ في ألحانِهِ لَحّانا , لا يَعرِفُ الهَمَّ فَتىً يَعرِفُهُ ولا تَرى نَديمَهُ نَدْمانا )) , ولعل أفضل اختصار لمؤهلات النديم ماذكره أبو النُواس بأنه المشارك في مجلس الشراب , ويخلص إلى أن المرء يُنسب إلى نديمه , فإن كان النديم كريماً شهماً نبيلاً نُسِبَ مًنادِمه إلى هذه الصفات الحميدة , وإن كان النديم طائشاً سيئ العِشرة نُسِبَ مُنادِمُه إلى سوء العشرة , حيث يقول : (( تَعَلّلْ بِالمُدامِ مَعَ النَديمِ فَفيهِ الرَوحُ مِنْ كُرَبِ الهُمومِ , ولا تجْعَلْ نّديمَكَ في شَرابٍ سَخيفَ العَقلِ أو دَنِسَ الأديمِ , وإنّ المَرءَ يَصحَبَ كُلَّ جيلٍ ويُنْسَبُ في المُدامِ إلى النَديمِ )) , وإلى ذلك يذهب الشاعر العباسي محمد بن عبد الرحمن العَطَوي , حيث يقول إن المُدام أو الشراب يطيب مع النديم الطيّب المعشر ويسوء المزاج مع نديم سيّئ الخُلق : (( طِيبُ النَديمِ يَفوقُ طِيبَ الراحِ ويَحُثُّ شارِبَها على الأقداحِ , تَصفو الزُجاجةُ بِالنَديمِ إذا صَفا ويًكَدِّرُ النَدْمانُ صَفْوَ الراحِ )) .