ملأنا السرور ونحن نطالع كتاب رحلات المرأة العراقية تأليف الدكتور فاضل عبود التميمي خصوصا ماورد في ص ٤١ من مذكرات الرحالة ماري تيريز أسمرفي أن بدو ( الدريع ) وقد نزلت عندهم ضيفة مكرمة وهي مسيحية طبعا , رأت أن بدو (الدريع) كانوا متسامحين دينيا , فحين زارهم عارف بالدين , معني بتثقيفهم , قوبل بصرخات الاستنكار, والامتعاض حين مس عقائد المسيحين , عندها جروه من لحيته ليلقوه خارج الخيمة , وتساءلنا أيهم اكثر ثقافة ومدنية , بدو الدريع , أم الزائر المكلف بتثقيفهم ومن على شاكلته في زمننا هذا؟
اذا كنت أيها القاريء قد سررت مثلنا لما قرأته عن بدو الدريع , فدعني اخبرك بما فعله فقهاء زمن بريمير : أطل إمام مسجد الإمام أبي حنيفة ببغداد يوم الجمعة27/12/2024 قائلاً: (( إلى كلّ الآباء , وإلى كلّ الأُمهات , وإلى كلّ الأبناء , وإلى كلّ البنات , المسلم يتميز بشخصيته , عيد الميلاد , وعيد رأس السَّنة لأهلهما , لا يجوز لنَّا أنْ نُشارك غيرنا مناسباتهم )) , مع أنَّ هذا الإمام قد خاطب سابقا المُفَرطِيّن بالعراق : (( أريد أنْ أبني بلدي)) , وهذا الخِطاب لا يبني بلداً يشترك فيه أهل أديان ومذاهب , كما ان مفتي الدِّيار العراقيَّة حذر مِن أمام محراب جامع أمّ الطّبول ببغداد يوم 28/12/2018 : (( لا يجوز الاحتفال برأس السَّنة , ولا التّهنئة لها , ولا المشاركة فيها)) , وخاطب المهنئ : (( إذا متَ تموت مشركاً )) , ونستغرب كيف يجري التَّفكير والكنائس ملأى بالمسلمين عند الشَّدائد منذ اجتياح المغول لبغداد إلى يومنا هذا.
بتنا نشهد كل عام مناقشات وسجالات حول مسألة تهنئة غير المسلمين بأعيادهم (وخاصة الكريسماس ورأس السنة) , حيث نجد هنا فريقين بارزين :الفريق الأول يحشد النصوص لأجل إثبات حرمة التهنئة , بل ويذهب بعضهم إلى أن ذلك كفرٌ, وينقل أن التحريم هو مُعتَمَد المذاهب الفقهية الأربعة , وأنه لم يقل بجواز ذلك أحدٌ من غير المعاصرين , بل إنني قرأت لأحدهم أن التهنئة -بمجردها- حرام عند جميع الفقهاء , والثاني يستدعي نصوصًا عامة في الإحسان إلى أهل الكتاب والبر بهم , وأن إباحة الزواج منهم تستدعي الملاطفة معهم وتهنئتهم , ويحاول إثبات وجود خلاف فقهي قديم في المسألة , ويستعين بفتاوى معاصرة , وأنه يجب عدم إقحام الإيمان والكفر في المسألة , لأنها مسألة عملية (فقهية) لا نظرية (عقدية أو كلامية) , فضلاً عن أنها من مسائل الفروع لا من مسائل الأصول , ومن ثم فلا يَلزم فيها التكفير.
تجعل الفتاوي آنفا المواطنة عبارة عن تكارهٍ دائمٍ , بالرغم من ان هناك حشدٌ مِن الآيات التي توصي بحسن العلاقة بغض النّظر عن الاختلاف في الدِّين , منها الزَّواج , والاشتراك في الطَّعام , فماذا يقول الكارهون , النَّاهون لتهنئة أهل الأديان بأعيادهم , ومناسباتهم في الآيات: (( وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ )) (العنكبوت الآية 46) , و(( الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَمن قبلكم )) (المائدة الآية 5), (( وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)) (المائدة الآية 47) , وخص المسيحيين بالقول: (( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ)) (المائدة الآية 82) وغيرها.
لقد سبق جماعة الإخوان المسلمين بالعراق الخطيبين , بتحريم مشاركة المسيحيين أو تهنئتهم , ببغداد خلال العهد الملكيّ , بغداد المعروفة باختلاطها الدِّينيّ التاريخيّ , كان ذلك عندما سُمح لهذه الجماعة العمل بحرية , ظناً أنها جماعة تقوى , لا سياسة وحزب , حتَّى أنتبه ذلك العهد , وأوقف نشاطها حينها , وإذا أُخذ تحذير مفتي الدِّيار العِراقيَّة , وإمام مسجد أبي حنيفة , وتُضاف لتحذيراتهما تصريحات خطيب الجمعة بالنَّجف صدر الدِّين القبانجيّ , يكون مسؤولو الدولة العراقيَّة مِن العهد الملكيّ إلى يومنا هذا كفاراً , لأنهم قدموا التهاني للمسيحيين في كنائسهم بداية من الملك فيصل الأول إلى رئيس الوزراء محمّد شياع السًّودانيّ الذي حضر قداس الميلاد ببغداد.
ورد في كتاب الأغاني ان خالد بن يزيد قال في رملة بنت الزبير:
(( تجول خلاخيل النساء ولا أرى … لرملة خلخالاً يجول ولا قلبا
فلا تكثروا فيها الملام فإنني … تخيرتها منهم زبيرية قلبا
أحب بني العوام طراً لحبها … ومن أجلها أحببت أخوالها كلبا
فإن تسلمي أسلم وإن تتنصري … يعلق رجال بين أعينهم صلبا )) .