الجيل الرقمي المنعدم التمييز والذوق والمواهب

الجيل الرقمي المنعدم التمييز والذوق والمواهب

على عكس ما يظن الكثيرون منه والقليلون منا فقد حُرم هذا الجيل-اما بسبب الثورات الرقمية والتكنولوجيا المعلوماتية أو بسبب آخر سنفصّله- من متع كثيرة في الحياة ومن ميّزات كانت تتمتع بها الأجيال السابقة ، وهذه داهية لاشك ولكن الأدهى من هذا انهم لا يعرفون ذلك ولا يشعرون به بل ويظن اغلبهم إن الذين قبلهم كانوا محرومين وانهم هم المحظوظون بسبب ما وصل اليه التقدم العلمي من ربط العالم بشبكة بث واحدة وشاشة واحدة تقريبا وكأن الجميع يعيشون في زقاق واحد ،
وجهة محرومية هذا الجيل خافية عنهم لأنهم لا يعرفون الذي هو خير مما بين أيديهم ولا يدركون ما هم فيه من تيه فكري وأدبي وفني وحتى رياضي ، فالطرب عندهم ان فلانا كسب كذا عدد من المتابعين فهو مطرب كبير سواء “قال عيرتني بالشيب” و “حبيبي على الدنيا اذا غبت وحشة” او قال “صمون عشرة بالف” و “بحبك يحمار” ، والشاعر عندهم هو كم ديوانا طبع وكم “قصيدة” نُشرت له وكم ندوة دعي اليها سواء كان يهذي بهلوسات حداثيّة او كان يقول قصيدة شعرية ، ولاعب كرة القدم هو الذي حقق كذا من الجوائز الفردية سواء كانت فعلية حقيقية نتيجة موهبة فنية ام كانت إعلامية تمنحها المجلات والشركات والفيفا لإمور تسويقية مثل الكرة الذهبية والفضية والإحصائيات العشوائية لغرض المراهنات والمكاسب المالية.
فخسروا متعة الموهبة الرياضية غير المزيفة والمرئية للعيان بالمهارة المميزة أو الإنجاز الاستثنائي النظيف دون دعم ولا تزوير او الفوز المستحق دون مراهنات ولا مؤامرات ولا تزويق كما اصبح عليه الأمر قبيل مطلع العقد الثاني من هذا القرن. وافتقدوا قيمة الأدب الرصين في الرواية الهادفة الاجتماعية والنفسية والسياسية التهذيبية والقصص الممتعة المحترفة التثقيفية والشعر الملتزم بالقواعد الصعب على غير الموهوبين المقتصر على البارعين الذي ينمّي الذائقة ويرتفع بالوجدان ، وافتقدوا الحس الفني للرسم والتشكيل بعد ان اغرقت انظارهم بالخطوط المرتبكة والالوان المتداخلة على غير هدف ، ووقعوا في فخ البرامج التلفزيونية والحلقات الفيسبوكية والجوائز الوهمية وصار كل من تخيّل انه شاعر او قاص او ناثر او رسام فتح له قناة او حسابا او دعا الى مؤتمر او اقام مهرجانا او معرضا وراح يهذي ويصفق له الساهرون ويهذي ويزيد المصفقون ففقد الجيل بل انفصل عن الشعر والادب الحقيقي والفن الذي كان يسحر الالباب ويشبع الفكر ويرتقي بالذائقة الانسانية من قبل.
وتاه هذا الجيل أيضا -الا النادر منهم ممن استقى من أبيه او ثقّف نفسه بالمصادر- بين مدّعي فكر ديني وتجديد عقائدي وتثوير فلسفي لا معنى له ولا قيمة ولا ابتكار ولا تجديد في النظريات ولا تواصل مع التراكم المعرفي السابق ولا هو بالمنتج لشيء ملفت مقنع نافع يمكن ان يجذب الانظار ويضيف للعلوم كما فعل الفلاسفة والمفكرون والفقهاء من اجيال بدء التاريخ الى آخر سنوات القرن العشرين ومطلع القرن الجديد الذي كانما قد خُطط له ان يقضي على كل قيمة ويتفّه كل فكر ويسفّ بكل أدب ويهبط بكل ذوق ،
ابتُلي هذا الجيل براقصات ومطبلين ومتشاعرين ومتفلسفين ومزورين وصيادي نساء ومغرري مراهقين ، وب”مشاهير” من نوع غريب لا علاقة لهم بما يصنع الشهرة في المقاييس المعروفة منذ نهاية القرن العشرين فنازلا الى عصر بداية التدوين البشري على الرقم والواح الطين ، والأمر لاشك له علاقة بأيد خفية شيطانية محسوسة وان لم تكن ملموسة كانت تعمل بدأب على تهديم هذا العالم خلقيا وابداعيا ودفنه قيميا منذ القدم ابدأ بشكل بسيط ضعيف لغلبة الحق والاخلاق آنذاك ثم منذ مائة سنة ظهر بشكل اكثر تاثيرا واقل وضوحا ثم لم يثمر كما أرادوا الا منذ عشرين سنة ، وكانت الوسيلة الكبرى التي ساعدتهم في ذلك ونجحتهم -ونصرتهم على القيم العالية والفلسفة الحقة والادب الرصين والفن الراقي والرياضة النبيلة- هي شبكة الانترنت وتجهيل العوام وتسخيف المثقفين وتحييد العلم والمدارس والمكتبات ، وكذا إغراء الرجال التافهين وسحب الولاية من ايديهم واطلاق حريات النساء وانفلات المراهقين والترويج الاعلامي المنظم للتفاهة في الفن والإسفاف في الأدب ، والجوائز الوهمية في الرياضة والصفاقة في التصرف فتمّ خلط الامور على الجمهور -الجاهل في أغلبه أساسا-وصناعة جيل منفصم عن واقعه منفصل عن تاريخه مخدّر مسيّر لا يعي من حقيقة ما حوله شيئا .