5 فبراير، 2025 6:05 م

نشر الدكتور ظاهر شوكت قصة قصيرة اسمها (( فن المسخ في بلادي )) , عن شخص ذو فجيعة كونه أصبح ممسوخا بظهور قرنين في رأسه , نتيجة تنازلات قدمها بعد ان فشل بالصمود , وبالتالي شعوره بالعار بسبب سقوطه , ورغم انه اصبح رجلا مهما ألا انه يجد صعوبة في تقبل وتفهم وضعه الجديد .  

ذكرتني عبارة المسخ بحوار جرى بيني وبين سفيرنا في كينيا الدكتور زيد حيدر عام 1985 , حيث كنت اعمل معه سكرتيرا ثالثا في السفارة , وكان السفير قد لاحظ رغبتي الشديدة في ألترجمة الفورية من والى اللغة ألأنجليزية , وليرشدني كيفية التخلص من المواقف المحرجة عندما يتطلب ألأمر ترجمة كلمة لا أعرفها , فقال لي (( أخلق الكلمة بنفسك )) , وليعطيني مثالا سألني عن ترجمة كلمة ( يمسخ ) , فأجبته انها لم تمر بي , فقال : (( أستخدم الفعل (يشخص) وأنفيها ستحصل على كلمة يمسخ , بأن تدخل (de) على الفعل ( personalize) , فتقول ( depersonalize) لتحصل على معنى الفعل يمسخ , علما ان المسخ بالإنجليزية (monstrosity أوmetamorphosis) .

تنسجم قصة الدكتور ظاهر شوكت مع كتابات فرانز كافكا وعالمه السوداوي , خصوصا روايته (المسخ أو التَّحَوُّل أو الانمساخ ) , وهي رواية قصيرة كتبها الروائي الألماني  , نُشرت لأول مرة عام 1915 , وهي من أشهر أعمال القرن العشرين وأكثرها تأثيرًا , حيث تتم دراستها في العديد من الجامعات والكليًات في العالم الغربي , وقد وصفها الكاتب البلغاري إلياس كانيتي بكونها أحد الأعمال القليلة الرائعة , وأحد أفضل أعمال الخيال الشعري المكتوبة في القرن العشرين .

تبدأ القصة بتاجر مسافر اسمه جريغور سامسا, الذي يستيقظ ليجد نفسه قد تحوّل إلى حشرة بشعة , في السطر الأول من  التحول يصدم  كافكا  القارئ بهذا التحول الرهيب حيث يقول: (( استيقظ جريجور سامسا ذات صباح بعد أحلام مزعجة , فوجد نفسه قد تحول في فراشِه إلى حشرة هائلة الحجم )) , جريجور  هذا العامل البسيط، البائس بوظيفته التي تجبره علي الاستيقاظ مبكراً ليلحق بقطاراته كي يجوب المدن بائعاً متجولاً , في شقاء يومي متكرر , بالكاد يحقق له دخلاً يستطيع به أن يعول أسرته , ويجري  كافكا  هذا الحدث غير الواقعي , وغير محتمل الوقوع  في مجاري واقعية تماماً , موهماً القارئ بصدق هذا الكابوس , والذي تمنَّى  جريجور/ المتحول  أن يكون هذا مجرد حلماً مزعجاً سرعان ما يستيقظ منه , لكنه أيقن بتوالي الأحداث استحالة أمنياته , عندما ترتعش أطرافه المفصلية الحشرية في محاولاته اليائسة للنهوض من فراشه حيث تسبب له الألم , وعندما يضطر للرد علي أسرته القلقة بسبب تأخره في النوم علي حالته الجديدة , ويصافح مسمعيه هذا الصوت الرفيع الغريب الذي هو بالتأكيد صوته غير البشري , ولا تقتصر مأساة هذا البائس فيما بعد في عجزه عن المواءمة مع هذا التحول القدري , بل تتعداه إلى موقف الأسرة السلبي منه ـ فيما عدا أخته التي كانت تؤثره في محنته ـ حين تبتعد عنه مع مرور الوقت وتفاقم أزمته الوجودية , ثم هي تدفعه للاختفاء بعيداً عن الأعين , ثم وهي تبلور مشاعرها لمشاعر باردة وغير إنسانية بالمرَّة , برغبة جماعية في التخلص منه , حتى ولو كان الثمن هو الموت , فالارتباط المادي الذي يربطهم به قد انقطع صبيحة التحول الحشري مع توقفه عن العمل , بالفعل يموت  جريجور  , ماذا يمكنه أن يفعل غير الموت ؟  بعد أن أرهق  كافكا  القارئ بالتفصيلات الحياتية اليومية الكابوسية , التي تؤكد أن مجرد البقاء على هذه الصورة أمراً مرعباً وغير محتمل , وأن الانتحار هو الحل الوحيد الممكن.

يقول روجيه جارودي عن كافكا وعالمه السوداوي أنه خلق هذا العالم بمواد عالمنا مع إعادة ترتيبها وفقاً لقوانين أخرى تماماً كما فعل الرسامون التكعيبيون في نفس الفترة ,  وتنتمي المسخ إلى المذهب العبثي في الأدب , وتعالج موضوعات مرتبطة بالحداثة كالاغتراب الذي يعد من أهم سمات المجتمع الحديث الرأسمالي , ويذكر كتاب الاغتراب الكافكاوي لآبراهيم محمود : ((إنّ المرء هو مغترب كيف كان اختياره , فالخضوع للقوانين غير الأخلاقية يعني طلاق كل ما هوإنساني فيه , وعدم الخضوع يعني الفناء , وهذا ما حدث مع جريغور سامسا , كيف صار مسخاً ؟ لأنه حاول الخروج عن عن القانون الذي يقتل فيه انسانيته في مجتمع مرعب )).

يقول محمود درويش : ((إني خُلقتُ على صورةِ الله/ ثمّ مُسختُ إلى كائنٍ لُغويّ)) , ويقول فراس حج محمد : ((ليَ النّزقُ الطّويلُ العمرِ, اللغةُ السّوداء , سحابة الشُّؤمِ الحفرةُ الغائرةْ , ولغيري الفكر والتّبجيلُ والمهجةُ الرّاضيةْ , واللّغة النّشوى وأعياد الهوى , وأزهار الرّبيعْ , والشّهوةُ النّاضجة , ومقعد عشـقٍ يُعتلى في الصّهوة الجامحةْ , لم يبقَ منّي غيرُ مسخٍ لغويّ , ظلّ قصيدةٍ في مُسوحٍ بالية)) .