11 يناير، 2025 11:50 ص

ظاهرة صدامية الوظائف المدنية والخدمية في العراق

ظاهرة صدامية الوظائف المدنية والخدمية في العراق

كانت الكاميرا مثبتة بعناية في المقاعد الخلفية للسيارة، تُظهر سيادة المسؤول جالسًا في المقدمة، مرتديًا الزي العربي التقليدي (الدشداشة)، في مشهد يوحي بأهمية الحدث. الليل متأخر، والموسيقى الحربية تعزف في الخلفية، مما يضفي أجواء من الترقب والتوتر، للحظة وأنت تتابع المقطع، تستشعر خطرًا محدقًا، كما لو أن المهمة التي يستعد لها المسؤول تحمل أبعادًا حساسة، بينما ملامحه وحركاته توحي بأنه في طريقه لتنفيذ عملية خاصة لخلية الصقور أو مهمة نوعية لجهاز مكافحة الإرهاب، ولكن بينما تتصاعد توقعاتك لفهم ما يجري، تتفاجأ بأن السيد القائم مقام خرج ليهاجم مجموعة من أصحاب المولدات الكهربائية بسبب تقليص ساعات التشغيل نتيجة نقص الكاز، وذلك بعد يومين فقط من توليه المنصب!
وفي مقطع آخر لا يقل غرابة يظهر وزير التعليم العالي والبحث العلمي في مشهد عشائري خالص، حيث أوقفه أحد الأشخاص ليخبره بأن زواجه متوقف على موافقة معالي الوزير، ثم اكتمل المشهد عندما عاد الشاب بعد فترة مع زوجته إلى السيد الوزير ليشكره في مقطع مصوّر أشبه بوثائقي عظيم جدًا يدفعك إلى رمي الهاتف بعيدًا وتصرخ متسائلا هل هذه هي إنجازات وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في العراق.
وتتكرر بشكل مرضي ظهور هذا النوع من المقاطع المصورة بزوايا سينمائية هوليوودية وأخرى بوليوودية تلاحقك عبر تطبيقات مواقع التواصل الاجتماعي التي تدمنها هربًا من القلق السياسي، لتشاهد حدثًا تاريخيًا لمسؤول ينزل من سلم البناية عائدًا إلى مكتبه، وآخر يستقبل مراجعين، أو حتى في جلسة خاصة كأنها مراسم أسطورية، وليس مجرد واجبات مهنية يفترض أن يقوم بها.
الملفت أن هذه الظاهرة لم تعد حكرًا على المناصب الرفيعة في المؤسسات الحكومية، بل امتدت لتشمل المدراء العامين وحتى مدراء البلديات في الأقضية والنواحي، حتى أصبحت هذه المقاطع أشبه بمهام وظيفية يومية، حيث يُنشر يوميًا ما لا يقل عن 10 مقاطع ريلز و5 صور وذلك من خلال جيوش إلكترونية تم إعدادها مسبقًا قبل صدور الأمر الإداري للمنصب.
ولم تتوقف الظاهرة عند هذا الحد، بل امتدت إلى الموظفين الأصغر الذين لا تسعفهم عناوينهم الوظيفية، فباتوا يقلدون مديريهم في استعراضاتهم، أتذكر يومًا كنت في إحدى الدوائر الخدمية المحلية، حيث كان أحد الموظفين يلتقط صورًا لزميل له، ليعلق عليه آخر قائلاً:” اكعد هيج مثل الريس الحلبوسي، وخلي الجكارة بيدك، وياها ترند مبسوط الريس وشون شلون طش!” هذه العبارة اعتقد تلخص مستوى عقلية الاستعراض الذي وصلنا اليه.
لمحاولة فهم أسباب هذه الظاهرة لابد من العودة إلى الجذور التاريخية والثقافية التي ساهمت في تشكيلها، اجتهدت بشدة في إيجاد وصف أو تسمية لها، لكن للأسف لم أتمكن من إيجاد تعبير مناسب يعبر عنها بشكل كافٍ سوى عبارة “صدامية الوظيفة” حيث كل واحد من هؤلاء المسؤولين يحاول تجسيد تلك الكاريزما الصدامية التي كانت تعتمد على تمجيد القوة والاستعراض، والتي عززها الرئيس السابق عبر الإعلام والعسكرة والعشائرية، فضلاً عن السياقات الشخصية والاجتماعية التي أسهمت في بناء هذه الرمزية.
ومع مرور الوقت، تحولت هذه الرمزية إلى جزء من الصورة الذهنية للمسؤول العراقي، والتي استمرت حتى بعد انهيار النظام السابق واستمرت بشكل متفاقم خاصة مع الضعف المستمر في مؤسسات الدولة وتفاقم الحرمان الاجتماعي.
بالتالي يصبح الافراد وخاصة المسؤولين اما باحثين عن طرق لتعويض غياب الاستقرار والإنجازات الحقيقية من خلال هذه الاستعراضات لتبرير العجز، او منهم من يحاول من خلالها اشباع رغبات نفسية تعزز من شعورهم بالتفوق والتميز على الآخرين سيما وان هذه السلوكيات تتماشى مع خلفية المجتمع العراقي الشرقية التي تعتز بقيم الرجولة والشجاعة، وتجد نشوة في مظاهر الاستعراض.
ان هذه المظاهر ليست عشوائية، بل لها جذور نفسية وثقافية تتطلب التوسع في تحليلها إذا ما أردنا فهمًا معمقًا لهذه الظاهرة التي أصبحت اليوم كأنها عدوى منتشرة إذ يتسابق المسؤولون لتوثيق كل حركة أو قرار مهما كان بسيطًا، حتى لو كانت اعمال خدمية بسيطة، مثل رفع الأنقاض أو التعامل مع فيضانات الامطار تُقدَّم وكأنها فتوحات إسلامية.
وفي الوقت الذي يهيمن فيه هذا الهوس الاستعراضي، نجد أن البيروقراطية والبطالة المقنعة واللامبالاة بالإنتاجية تُعتبر سمات أساسية في المؤسسات العراقية، حيث تشير التقارير إلى أن العراق يمتلك عددًا من الموظفين الحكوميين يتجاوز 9 أضعاف ما تتطلبه النسبة العالمية في الدول الأخرى، أما في إقليم كردستان، فإن العدد يزيد 13 ضعفًا، وإذا جمعنا العددين معًا، تصبح النسبة 24 ضعفًا مقارنة بالمتوسط العالمي.
هذا الواقع للأسف يعكس أزمة عميقة في مفهوم الإدارة يشهدها العراق، ففي الوقت الذي تسعى فيه الدول المتقدمة لاختيار المسؤولين والعمداء أو رؤساء البلديات من خلفيات مدنية أو أكاديمية تمتلك تاريخًا من الأنشطة التطوعية والمساهمات المجتمعية لتعزيز الطابع المدني في خدمة المجتمع والدولة، نجد في العراق أن الوظيفة حتى في أدنى مستوياتها، يُنظر إليها كفرصة للاستعراض بدلًا من الإنتاجية، إن لم تكن فرصة للتسلط!

أحدث المقالات

أحدث المقالات