23 ديسمبر، 2024 9:44 ص

الشرق الأوسط والتحولات العميقة

الشرق الأوسط والتحولات العميقة

يشهد الشرق الأوسط وبالتحديد المنطقة العربية منه تحولات عميقة ومعقدة، تتقاطع فيها عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية. فمن الصراعات المسلحة المستمرة إلى التوترات الإقليمية، ومن التحديات الاقتصادية إلى التغيرات المناخية، تواجهه المنطقة تحديات جسام تهدد استقرارها ورخاء شعوبها. بالإضافة إلى أن هذه المنطقة ليست كتلة واحدة متجانسة، بل هي فسيفساء من الثقافات والحضارات والتاريخ. هذا التنوع يجعلها منطقة غنية بالفرص، ولكنه في الوقت نفسه يزيد من تعقيد المشهد السياسي والاجتماعي. لذلك لا يمكن فهم التطورات الجارية في الشرق الأوسط بمعزل عن التفاعلات الدولية. فالتدخلات الخارجية، والتنافس بين القوى الكبرى. والتغيرات في النظام الدولي، كلها عوامل تؤثر بشكل كبير على مستقبل المنطقة. فهل للشرق الأوسط أن يتجاوز هذه المرحلة الدقيقة ويفتح صفحة جديدة من التاريخ؟ وكيف للشرق الأوسط أن يوازن بين مصالحه الوطنية وبين التطورات على الساحة الدولية؟ وهل يمكن للشرق الأوسط أن يستفيد من هذا التنوع ويحول التحديات إلى فرص؟ للإجابة على هذه الأسئلة يجب نضع نصب اعيننا حقيقة أن الاستقرار في المنطقة معقد للغاية ويتسم بالجوانب الإيجابية والسلبية، ويمكن إيجاز ذلك بما يلي:
1. الجوانب الإيجابية:
التعدد الثقافي كمصدر قوة: تنوع الثقافات والأديان والمجموعات العرقية يعزز من الهوية المشتركة في بعض البلدان عندما يتم التعامل معه بسياسات شمولية. يمكن أن يكون هذا التنوع مصدرًا للإبداع والتطور الاجتماعي والثقافي، ويشكّل قوة محركة للتنمية، ليس على مستوى النمو الاقتصادي فحسب، بل أيضاً كوسيلة لعيش حياة فكرية وعاطفية ومعنوية وروحية أكثر اكتمالاً. ويمكن أن نعدّ التنوع والتعدد في الهويات والثقافات والقيم غنى وثراء للجنس البشري على العموم، ودافعًا إلى الإبداع والإنتاج الحثيث في مختلف المجالات، وذلك لا يمنع من أن تشكل الهوية الثقافية خطرًا على المجتمع، يحدث عند حصر الهوية الثقافية في نطاق ضيق ومنغلق على ذاته يمنع الفرد من أن يقدّر ويحترم الفرد المختلف عنه. “إن الحق في المدينة… لا يستقيم من دون الانتفاع الكامل والتام من المدينة واحترام التنوع الثقافي من غير إقصاء، وحماية التاريخ والهوية والثقافة هي إطار عمل مشترك للمواطنين في تحديد تنمية البيئة الحضارية وتطويرها”، ويتطلب مفهوم التعايش السلمي في المجتمعات المتنوعة عنصرين مهمين هما القبول والاحترام، ويعني ذلك فهم أن كل شخص فريد، وأنه يجب الاعتراف بهذه الاختلافات الفردية، أيًّا كان شكل هذه الاختلافات ذات الصلة بالأبعاد المختلفة مثل العرق والعمر والوضع والحالة الاجتماعية والاقتصادية والقدرات البدنية والمعتقدات الدينية وما إلى ذلك، ومن ثمّ هناك حاجة إلى استكشاف هذه الاختلافات في بيئة آمنة وإيجابية.
التعايش التاريخي: لا تستقر البلدان المختلطة، قومياً ودينياً ومذهبياً، إلا بتكريس فكرة التعايش، ذلك بما فيها من أحداث مثقلة بالخصومة الدّينية الطّائفية والوئام على حد سواء. هناك أمثلة عديدة على تعايش مكونات مختلفة في الشرق الأوسط لفترات طويلة، مما يعكس إمكانية بناء مجتمعات متنوعة ومستقرة. ومن هذا المنطلق أصبح مفهوم التعايش أحد المفاهيم المحورية الهادفة لإدارة التنوع في المجتمعات الإنسانية بشكل سليم، وتحويله إلى قوة دفع لتعزيز التماسك المجتمعي وتحقيق السلام بين شعوب العالم. لأن التعايش كضرورة مطلقة لتسوية العلاقات الإنسانية، في المجتمعات والأديان والأوطان، لم يعد منها مفر؛ إذ إن البديل للتعايش هو، بالضرورة الإقصاء والإلغاء وما يترتب عليهما من عنف وفوضى وعنف مضاد.
تعزيز العلاقات الإقليمية: التنوع يشجع على التعاون الإقليمي، حيث يمكن أن تصبح الثقافات المتنوعة جسورًا بين الدول بدلاً من أن تكون عوامل انقسام. يُعزز التنوع الثقافي على الانسجام بين الشعوب بصورةٍ أفضل ويساعد على تبديد الصور النمطية السلبية والتحيزات الشخصية حول المجموعات المختلفة. كما يساعد على تعزيز التفاعل مع الآخرين وبناء جسور الثقة والاحترام والتفاهم عبر الثقافات. يساهم في التعزيز من المهارات اللغوية وطرق التفكير الجديدة والمعرفة الجديدة والتجارب المختلفة وتعلم مهارات التواصل والتفاعل مع المجتمعات والمفاهيم وأنظمة المعتقدات المجهولة، وبالتالي اكتساب منظور دنيوي وتوازن ملحوظ لدى الشعوب. تعزيز الاحترام بين أفراد المجتمع، وتوثيق روابط التعاون والتكافل والتسامح. أن وجود أشخاص من خلفيات مختلفة يمكن أن يؤدي إلى حل أفضل المشكلات من خلال تعدد الآراء. وهذا التنوع يساعد على فتح الباب لفرص جديدة ومزج الأفكار الناتجة من ثقافات وآراء مختلفة. يُساعد الطلاب عند تفاعلهم مع أشخاص من ثقافات متنوعة على منحهم الثقة في التعامل مع أشياء خارج مناطق راحتهم وتعزيز بناء قوة الشخصية والشعور بالفخر. التفاعل مع الأشخاص الذين لديهم ممارسات ومعتقدات وخبرات حياة وثقافة متنوعة يساعد على التعزيز من التعاطف.
2. الجوانب السلبية:
صراعات الهوية: الاختلافات العرقية والدينية قد تؤدي إلى نزاعات إذا لم يتم إدارتها بشكل صحيح. التنافس على السلطة والموارد غالبًا ما يتفاقم نتيجة لهذه الفروقات.
الطائفية والتقسيم السياسي: التركيز على الهويات الطائفية أو الإثنية قد يؤدي إلى انقسامات سياسية وتراجع الاستقرار، كما هو الحال في بعض الدول التي تشهد صراعات مستمرة بسبب إحياء النزاعات التاريخية والسرديات التي تُركّز على المظلوميات أو الخلافات التاريخية بين الطوائف وتعيد إنتاج الانقسامات وتغذي مشاعر الكراهية والعداء. كما أن الاعتماد على هذه السرديات يؤدي إلى ضعف الهوية الوطنية الجامعة، حيث تبرز الهويات الطائفية كبديل. الخطاب الطائفي يؤدي إلى أضعاف التماسك الاجتماعي ويُنتج مجتمعًا مجزأً، مما يجعل تحقيق التقدم والاستقرار تحديًا كبيرًا. وذلك عندما تُستغل السرديات الطائفية لتعزيز مصالح سياسية ضيقة، سواء من قبل النخب المحلية أو الجهات الخارجية، مما يؤدي إلى تصاعد الصراعات.
التدخلات الخارجية: التنوع يُستخدم أحيانًا كذريعة للتدخل الأجنبي. بعض القوى الخارجية تستغل الاختلافات لتأجيج الصراعات وتحقيق مصالحها.
ضعف المؤسسات الوطنية: في بعض الحالات، يؤدي التنوع إلى ضعف المؤسسات إذا فشلت الحكومات في بناء هوية وطنية شاملة، مما يزيد من احتمالية الانقسامات الداخلية.
تأثيرات عملية على السياسة والاستقرار:
السياسات الشمولية مقابل التمييزية: البلدان التي تنتهج سياسات شمولية تسعى إلى تحقيق المساواة بين مكوناتها تتمتع باستقرار نسبي أكبر، مثلما يظهر في بعض الدول ذات الحكومات القوية والتمثيل المتوازن.
الصراعات الإقليمية: النزاعات العرقية والدينية غالبًا ما تتجاوز الحدود الوطنية، مما يؤدي إلى أزمات إقليمية. مثال ذلك، الصراعات الكردية التي تمتد بين عدة دول.
الهجرة واللجوء: تؤدي الصراعات الناشئة عن التنوع غير المدروس إلى موجات من الهجرة واللجوء، مما يزيد الضغط على الدول المضيفة ويؤثر على الاستقرار الإقليمي.
أن تعزيز الاستقرار والعيش بسلام يتطلب:
ـ تعزيز الهوية الوطنية بالتركيز على بناء هوية وطنية مشتركة تشمل جميع المكونات.
ـ سياسات تمكين الأقليات بضمان تمثيل عادل لها في الحكومات والمؤسسات.
ـ تعزيز الحوار الثقافي والديني وإنشاء منصات للحوار بين المكونات المختلفة لتعزيز التفاهم.
ـ التنمية الشاملة والقضاء على الفقر والتهميش الاجتماعي الذي يغذي النزاعات المحلية.
التنوع في الشرق الأوسط يمكن أن يكون فرصة أو تحديًا حسب كيفية إدارته من قبل الحكومات والمجتمعات.