20 ديسمبر، 2024 11:16 ص

سوريا المستقبل.. والاتعاظ بالتاريخ القريب

سوريا المستقبل.. والاتعاظ بالتاريخ القريب

ينشغل العالم اليوم ـ ويحق له ذلك ـ بالحدث السوري الكبير الذي وقع قبل أيام بالنجاح في اسقاط حكم عائلة الأسد بعد أكثر من خمسة عقود على حكمهم للبلاد بالحديد والنار وتحطيمهم لكل مقومات الحياة، وبعد نضال استمر 14 عاماً منذ اندلاع ثورة الأحرار ضد الطغيان.

ومع تباين ردود الأفعال، بين باكٍ فرحاً، أو مكسور غضباً، او صامت منتظراً انجلاء الصورة، فان الاهتمام الأكبر يدور اليوم ـ كما يبدو ـ حول المستقبل، ذلك ان أكثر ما يخيف بعد النجاح في تحقيق الأهداف المحافظة عليه وتنميته والحيلولة دون استلابه او تشويهه او تدميره بأي حال من الأحوال.

وبدءاً لا بد أن نقول هنا ان هذا الهاجس المستقبلي أمر لازم، وشعور مطلوب، وهو أمر لا يتقاطع مع الشعور بالسعادة التي تغمر الملايين، ولا هو تعبير عن تشاؤم مبكر لحدث يدعو للتفاؤل، أبداً، بل هو التزام حتمي لدعوة إعمال العقل من جهة، وتفعيل مطلوب لحالة الحذر من القادم وتخطيط للغد القادم لا محالة من جهة أخرى.

ولعل التأسيس لسوريا المستقبل إنما يجب أن يكون في أحد أبرز أركانه مرتكز على استيعاب التاريخ القريب من عمليات التغيير، فقد سبقت الثورة تجارب متعددة، مختلفة في أشكالها لكنها متشابهة في عمومها بجوهرها وهو تغيير النظام الحاكم، والمرور بالمرحلة الانتقالية والولوج إلى الحالة البديلة، مما تمثل واحدة من أغنى التجارب الواجب الاهتمام بها وإدراكها.

ولو قلبنا هذا السجل الحافل، سنجد أمامنا أولاً التجربة العراقية المريرة والتي ما تزال غير متعافية بشكل تام، والمصرية الحزينة التي تتراجع في واقعها إلى الوراء، واليمنية والليبية المشتتة بين الصراعات.. الخ.

فماذا يقول لنا هذا التاريخ المفعم بالدروس؟!:

1. ان تأسيس النظام السياسي الجديد هو الأصل، فأي شكل تضعه له هو ما تراه في حياتك ويومياتك، فحذار من قيامه على أسس خاطئة أو معوّجة أو القبول بالترقيع، فسوف يكون مستقبل سوريا عنوانه من ذلك الأساس، وكل ما سيفرزه النظام سوف لن يكون إلا مظهراً مفهوماً للجوهر الذي انبثق عنه، وبالمقابل فالعلاج لأي خلل لاحق سوف لن يكون مجديأً إلا بالعودة إلى أصل المشكلة لا افرازاتها.

2. وعدم استعجال المكسب او نتيجة الثورة بسرعة تتقاطع مع طبيعة الأشياء لا بد منه، فثمة تركة ثقيلة تجمعت عبر عقود الظلم، والتعاطي معها أو معالجتها لن يتم في يوم وليلة، ولذلك فتأسيس العمل يجب ان يكون وفق رؤية استراتيجية وأهداف مرحلية، والالتزام بالتوقيتات التي لن تؤتي ثمارها دون أن يرافقها صبر استراتيجي، وانتباه ويقظة دائمة، وصدق بالوعود، والتزام بالعهود.

 

3. وحذار من تسلل أذرع الدولة العميقة التي تتجدد كل حين، وتستغل تجذرها في الحياة اليومية وكافة مفاصلها، وتغير جلدها ولونها ووجهها مع كل اتجاهات الرياح، فمراكز القوى المخفية، ومصادر القوة الأساسية التي يملكها هذا الطرف أو ذاك هو الأهم، وتفكيك كل ذلك هو أول خطوة حقيقية في إيجاد النموذج البديل.. وبدون لن يكون العمل إلا بناء القصور الواهية على الرمال.

 

4. ولا بد من وضع هدف تأسيس الدولة أولوية لا يسبقها شيء او يكون لها بديلاً، ومن الضروري التذكير دوماً هنا بالحفاظ على المؤسسات الرسمية وهياكلها التي لم تلوثها الدكتاتورية، ورجالاتها الذين بقوا على نقائهم أو جمعوا بعضاً من الذنوب اللمم يمكن أن يكون نصيبها الغفران.

 

5. ومن الواجب التمييز بين سياسة العفو وتطبيق القانون، وبين القصاص وزرع بذور الكراهية والانتقام، والأمر اليوم بات هيناً مع ثورة الاتصالات التي لم يدر أصحابها ربما أنها ستكون الشاهد المخلص لهذه الحقب الخطيرة من تاريخ الأمة، مع الانتباه إلى أهمية التأني في معالجة ذلك الأرشيف الضخم لكي يقدم الانموذج الأكثر مقبولية ويرسخ النجاح.

 

6. وحذار مرة أخرى من غض الطرف عن الحس المتطرف ومنهج الغلو والفهم الشاذ للدين، فما أجدبت أرضنا وحزنت إلا من ذلك الفكر الضال الذي بات العوبة بيد الآخر يوجهه كيفما يشاء، ولا يهتم لأي دم يراق من اجل تنفيذ أجندته الخبيثة، فإعلاء الصوت المعتدل والانتصار للمنهج الوسطي وإزالة كل القيود والعقبات التي كانت تحيط النص الديني وفسح المجال لرموزه من العلماء الثبت، كل ذلك كفيل ببزوغ شمس جديدة تتجاوز ما مرت به الدول السابقة من تفشي عصابات الموت تحت شتى المسميات.

 

7. والدولة المدنية المنفتحة على جميع الاتجاهات، والمؤسسة على مبدأ حرية التعبير والتفكير والانتماء، لا تعني بأي حالٍ من الأحوال ذوبان الهوية أو تفتيت الثوابت، او القبول بمشاريع التطبيع البائسة أو معاداة الفطرة الكؤود، ولا ننسى أن نجاح الثورة اليوم إنما هو احدى تجليات طوفان الأقصى المبارك، فلا ينبغي أن نقيم السدود الوهمية بوجه تطلعات أبناء الأمة، بل على العكس علينا ان نجعل من سوريا الجديدة واحة يستظل بظلها كل مقاوم ومجاهد.

 

8. وحذار مرة أخرى من هيمنة الماضي، فالتاريخ وجد للاتعاظ والاعتبار لا الهروب أو الاتكاء أو التبرير للفشل، أبداً، ولا بد من تفعيل هذا الفهم والوعي ليكون الماضي رافداً للنجاح لا معوقاً له، وذلك لن يكون إلا بتوظيف الذاكرة بشكلها الإيجابي وانتقاء مواطن الالتقاء التي تمنح الارتباط الشديد وليست لحظات الافتراق والاختلاف والنزاع والتي تبقى تنكأ الجراح ولا تضمدها أو تمنحها العلاج.

 

9. وبناء الحكم الرشيد هو المشروع المطلوب، أساسه العدالة، ومنح الحقوق، وتطبيق القانون، ورفع الظلم، وتقوية نسيج الوطن باعتماد المواطنة شعاراً ومنهاجاً، وتعزيز الهوية الوطنية مع احترام باقي العناوين والمسميات الفرعية دون عدوان لأحد على آخر أو تجاوز على ما يمثل هويتهم ويعبر عن انتمائهم مادياً ومعنوياً، وحفظ حقوق الانسان، وإزالة ثقافة تكميم الأفواه والحوار عبر القضبان، وبناء علاقات بناءة مع الآخر قوامها الفاعلية لا التبعية، لتكون سوريا المستقبل للجميع بلا استثناء.

 

10. ولا ننسى أن نقول: لقد مرّ الربيع على دول أخرى فاستقبل دون تخطيط وعاطفة جياشة غطت على حكم العقل دون استعداد، فاستحال سريعاً شتاءً قارصاً، فلا بد من الانتباه لكل المخططات.

 

 

وختاماً لكل الأحرار: أنتم لأنفسكم لستم لغيركم.. فلا تكونوا سوى ذلك.. والعالم ينظر لكم.. فامنحوهم الاطمئنان وبشارة إتمام الانتصار!

 

 

أحدث المقالات

أحدث المقالات