اعرف انه بسب هذا الموضوع وعنوانه سيهاجمني الكثير من الناس الى حد القسوة ، ولكن فقط دعوني اوضح وجهة نظري وبعدها هاجموا او اشتموا كما تشاؤون .
ما ان اعتدل الطقس في العراق حتى هدات موجة الشكوى من انقطاع التيار الكهربائي ونسي الجميع الازمة الخانقة خلال الصيف الماضي ؛ وكل صيف ماضٍ، وراحت الحكومة واجهزتها تتحدث عن استعداداتها للصيف القادم وانها ستبدأ حملة صيانة وتاهيل و.. و.. وتطلق الوعود بان الصيف القادم سيكون الافضل من ناحية التجهيز وان المواطن سينعم بمزيد من البخيخ في تموز واب المقبلين .. وهكذا تدور الايام لنكتشف انه ليس افضل ولا اكثر تجهيزاً ، ولا هم يفرحون !.
الجميع تقريباً يعترف ان ثقافة الترشيد وعلى كل المستويات في العراق شبه معدومة .. فإهدار الطعام والشراب في العراق ثقافة متاصلة للاسف في نفسية الفرد العراقي وسلوكه ، حيث يراها البعض دليلاً على الكرم والعطاء وهي ليست كذلك أبداً .. وقل هكذا على جميع نواحي الحياة .. فهدر الوقت وقضائه فيما لايفيد ، وحشو الدروس التعليمية والكتب بالغث والهزيل ، وتلك الاعداد الهائلة من الموظفين الذين لا يعملون شيئاً سوى عد الايام وانتظار راس الشهر وقبض الراتب .. وينسحب الامر ايضاً على دوائر حكومية تتناسل وتنشطر وتتكاثر بلا اسباب سوى ترهل الكوادر الوظيفية وارهاق الخزينة العامة للدولة بالرواتب ، وصولا الى تخطي العراق المعيارية الدولية في عدد موظفي الدولة نسبة الى عدد السكان ..
لقد عشت لسنوات طويلة خارج القطر ، في دول مختلفة : منها من هو ارقى دول العالم ( كاليابان مثلاً ) ومنها الدول( التعبانة ) ، ولا اقول المتخلفة كاليمن ( ثلاث سنوات )،ومصر ( ست سنوات ) والولايات المتحدة الأمريكية ( ثلاثة عشر عاماً ) ، ورغم الاختلاف الجذري في كل شيء بين هذه الدول ولاسباب لا مجال لذكرها ، لكن المواطن فيها جميعاً ، كما هو في ٩٩٪ من دول العالم يلتزم حرفياً بالترشيد الصارم والمفروض عليه فرضاً بفعل : زيادة تكلفة استهلاك الكهرباء والطاقة، والعقوبات الرادعة الفورية فيما اذا اخل بالعقد الموقع بينه وبين شركات الكهرباء باعتبار الكهرباء سلعة يشتريها المواطن من الدولة ، فهو لايستخدم الا حاجته الفعلية ، ويدفع فاتورته بالوقت المحدد ، والا فهو مهدد : اما بقطع التيار ، او تضاعف قيمة الفاتورة ، او الترشيد الصارم ، وبوجود قانون واضح وسلطات تنفيذية لا تجامل ولا تخاف فان المواطن مرغم على اتباع الحل الثالث وهو الترشيد ..
لقد زرت العراق مرتين خلال العقد الفائت ورايت العجب العجاب .. فسرقة التيار الكهربائي علناً وسراً ثقافة رائجة في العراق وهي من الشطارة والذكاء ، والاسراف في استخدام الاضاءة ونوعية الأنارة دليل على الوجاهة والرقي والعيش الرغيد للاسف ، وكثرة عدد اجهزة التبريد والتكييف والتدفئة المنزلية لا تجدها في اي دولة في العالم وأجزم بذلك ، ولا استثني حتى الدول التي تصنف انها من دول التقدم الاقتصادي والرفاهية الاجتماعية ، وباختصار شديد فاننا وان قلت اننا لا نحسن التخطيط لا الآني ولا الستراتيجي ، فاننا لا نحسن تطبيق القوانين التي نضعها لضبط ايقاع الاسراف، لان الأجهزة التنفيذية تخاف الردود العشائرية وسطوة كيانات بعينها وهي فوق القانون بل وتصل الى حد القدسية وكلها خطوط حمراء !! وازاء ذلك تقف الدولة مكتوفة اليدين لا حول لها ولا قوة .
على انني لا اغفل ان قطاع الكهرباء ومنذ الاستهداف الشامل والممنهج لقوى العدوان ، سواء بالتدمير المباشر او الحصار الظالم على شعب العراق ، ومن ثم الاحتلال البغيض عام ٢٠٠٣ ، وكذلك عدم جدية ورغبة من تولوا مسؤولية ادارة البلد بعد الاحتلال في انقاذ هذا القطاع الحيوي الذي يمس حياة الناس بشكل مباشر ويؤثر في ارزاقهم ومعيشتهم وحالتهم النفسية ، والفساد المالي والاداري الذي يعج به هذا القطاع ، ورهن انتاج بعض المحطات بالغاز المستورد ( من ايران مثلاً ) ، اضافة الى تهالك شبكات النقل والتوزيع .. اضافة الى ان قضية المولدات الكهربائية التي تمد المواطنين بالطاقة في حال انقطاع التجهيز الوطني المركزي قد اصبحت قضية بزنس ويشوبها الف لبس ولبس من ملكيتها الى تجارتها الى تجهيزها بالغاز السائل ، وكذلك انتشار ظاهرة المنازل ( الحواسم ) ، والمصالح والبسطات العشوائية التي لا تخضع لرقابة ، ولا رقيب وتتحايل بطرق مختلفة من اجل سرقة التيار وايصال خطوط الطاقة اليها ، كل ذاك ادى الى استفحال الازمة وتفاقمها عاماً بعد عام .. وكل هذه العوامل مجتمعة ستتكرر في كل عام بغياب التخطيط والترشيد .. والحزم في تطبيق القانون .
خلال زيارتيّ الماضيتين للعراق رايت وسمعت العجب ، فما ان تاتي الكهرباء الوطنية حتى يبادر المواطن الى استخدام جميع اجهزته الكهربائية مرة واحدة وباقصى طاقاتها مما يؤثر على كمية التجهيز وقلة ساعاته ونوعيته ، يعلل مواطنون ذلك بانه نكاية بالمسؤولين الذين يتنعمون بالكهرباء اربعة وعشرين ساعة ونحن يطبق فينا وعلينا الترشيد ، فالقضية اصبحت نكاية ، والخاسر هو الوطن واقتصاده واعصاب المواطن .. كما انني اتابع كل ما ينشر في الصحف والمواقع عن الازمة الجديدة القديمة ، حيث ان اخر احصائيات الوزارة تشير الى ان انتاج الطاقة الكهربائية في العراق يصل احياناً الى ٢٦ الف ميكا واط وقت الذروة ، في حين ان الحاجة الفعلية هي ضعف ذلك ، وانا واثق ان الدولة واجهزتها لا تتجرأ على قول الحقيقة وهي : ان الترشيد والعقلانية في الاستخدام وتطبيق القانون والعقوبات وتضاعف الفواتير حال عدم او تاخير الدفع يمكن ان تودي الى تقليص الفجوة بين الانتاج والاستهلاك .. اضافة التى تدابير اخرى ، منها الزام المصانع والمعامل الكبرى بتدبير انتاج الطاقة الكهربائية بنفسها ومن مواردها الذاتية ، والزام واجبار شركات الاستثمار العقاري ( وما اكثرها ) على نفس هذا الامر وفصل المجمعات السكنية الحديثة عن الشبكة الوطنية ، وهناك شيء اخر غاية في الاهمية موجود لدى اغلب دول العالم وهو استخدام الاجهزة الذكية ، وهي تلك الاجهزة والادوات والمصابيح التي تطفيء نفسها بنفسها في حالة عدم الاستخدام وعدم استيراد اي شيء يخالف هذا المبدأ .. ومتابعة اطفاء مصابيح الطرق العامة وقت النهار والتشدد في ذلك ، ويبقى دور التوعية والارشاد مكملاً لكل ذلك عن طريق وسائل الاعلام ورجال الدين والمنظمات المتخصصة او منظمات المجتمع المدني، اضافة الى الحوافز والتسهيلات التي تقدم لاولئك الذين يحققون نتائج متقدمة في الترشيد ..
لقد شاهدت تجارب عملية بُثّت على الهواء مباشرة في دول مختلفة طلبت فيها السلطات من الناس اطفاء مصباح واحد وجهاز واحد زائد عن الحاجة ، فكانت النتائج مذهلة ، حيث ان بلداً مثل مصر تعداد سكانه مائة وعشرة ملايين نسمة، يتبع سكانه اسلوب السكن العمودي اطفأ خُمس الذين يتابعون البرامج مصباحاً واحداً وجهازاً منزلياً واحداً فهبط الاستهلاك الى حوال ٢٥ من المائة .. وهذا مثال واحد فقط ..
ايها المواطن العزيز : ارجوك اقرأ مقالي جيداً قبل ان تشتمني ، وتقول انني بطران ، وفايخ وعايش