سأحاول في هذه السلسلة من المقالات المتتابعة أن أعرف القاريء الكريم على المهازل السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي نعيشها نحن العراقيون منذ سقوط النظام الصدامي السابق . وأتعهد بأن أكتب هذه المقالات بكل جرأة وشجاعة من دون أي خوف من المحاسبة أو الجرجرة في المحاكم ، فأنا على يقين تام بأن القضاء في العراق أصبح ألعوبة بيد الفاسدين والمتنفذين من القوى السياسية العراقية والكردية فلا سيادة لها ولا استقلالية في ظل التدخلات الحزبية السافرة في شؤونه . فالقانون في دولة العراق الحديثة أصبح كرة مطاطية يلعب بها رئيس الحزب أو من يدور حوله يقذفها في الهواء أو يركلها بأي جهة كانت ، فهو الذي يجرم وهو الذي يقضي وما على قاضي المحكمة إلا انتظار وصول توصية الإدانة من هذا الحزب أو ذاك ليحدد مدة عقوبة المتهم الذي هو في معظم الأحيان يكون بريئا من أي قضية جنائية. وهذه التدخلات تعني بكل وضوح أن الدولة سائرة نحو الانهيار والفناء .
سأبدأ هذه المسألة من القضية الكبرى التي يدور حولها حديث الشارع الكردي اليوم وهي قرارات المحكمة الاتحادية العليا في بغداد بشأن توطين رواتب موظفي الإقليم .
فمن المعلوم أن المحكمة الاتحادية العراقية أصدرت خلال الفترة الماضية سلسلة من القرارات تتعلق بسلطة إقليم كردستان من أبرزها قرار توطين رواتب موظفي إقليم كردستان بالمصارف الحكومية حصرا وذلك بغية حل المشكلة المزمنة التي يعاني منها موظفو كردستان بسبب استقطاع رواتبهم وادخارها قسرا والتلاعب المستمر بقوائمها من قبل حكومة كردستان ما خلق أزمة خانقة لدى هذه الشريحة الواسعة وأدى إلى ركود الأسواق وانتشار الفقر والحاجة بين هذه الشريحة الواسعة من المجتمع الكردستاني .
لم يكن القرار مجموعة ألغاز تحتاج إلى توضيحات أو تعليمات حول كيفية تطبيقه فقد كان قرارا واضحا ألزم حكومتي بغداد وأربيل بدفع الرواتب الشهرية للموظفين في مواعيد محددة عبر المصارف الحكومية وتحديدا مصرفي الرافدين والرشيد والبنك التجاري العراقي . وبرغم مرور تسعة أشهر على صدور هذا القرار لكن الحكومة الاتحادية تلكأت أو تهربت من تنفيذه دون أي مبرر واضح رغم أن هذا القرار المهم كان من شأنه أن ينصف موظفي كردستان وينهي معاناتهم المستمرة مع حكومتهم التي تتعامل بكل صلافة ودون شعور بأي مسؤولية مع أقوات الشعب .
أنشأت حكومة إقليم كردستان مؤخرا حسابا مصرفيا بديلا عن قرار المحكمة الاتحادية أدخلت فيه عدة مصارف أهلية مملوكة أو تابعة لمتنفذي السلطة بكردستان ما يتعارض تماما مع قرار المحكمة المذكورة . وكان الغرض الأساسي إلى جانب ما سوف تجنيه تلك المصارف ألأهلية من عوائد مالية عن أجور تحويلات رواتب الموظفين البالغ عددهم مليون وربع مليون موظف في الاقليم ، هو إبقاء تلك الرواتب تحت رحمة حكومة الإقليم تدفعها متى تشاء و تستقطع منها ما تشاء !.
وفي تحد واضح لقرار المحكمة الاتحادية أصرت حكومة الإقليم على أن يكون التوطين بالمصارف الأهلية التابعة لفاسدي السلطة بالإقليم و حاربت على عدة جبهات من أجل تكريس هذا الحساب بديلا عن التوطين بمصارف الحكومة الاتحادية .
هذه الأزمة التي استمرت وتستمر منذ تسعة أشهر لا يلوح في الأفق أي حل معقول لها . ومن خلال تصريحات واجراءات حكومة الإقليم يبدو أن حساب ( حسابي ) هو الذي سينتصر في النهاية وستذهب الرواتب إلى المصارف الأهلية بالضد من قرار المحكمة الاتحادية . فالملاحظ أن هذا الموضوع أصبح مجالا لعقد صفقات سياسية بعيدة عن الهدف الأسمى من قرار المحكمة الاتحادية وهو انقاذ رواتب موظفي كردستان من تحت يد المتلاعبين بها .فهناك تقارير تشير إلى أن حكومة السيد محمد شياع السوداني تتعرض إلى ضغوطات مكثفة وشديدة من قبل حزب البارزاني الذي يدير حكومة الإقليم باتجاه دفعه نحو قبول تكريس ( حسابي ) بديلا عن التوطين الحكومي أو على الأقل تأخير وتأجيل تطبيق قرار المحكمة إلى إشعار آخر قد لا يأتي أبدا .
ما يثير القلق العميق لدى المراقب السياسي الكردي هو الموقف الضعيف للسيد السوداني أمام حزب البارزاني . ولا تخفي بعض المصادر أن السوداني بصدد عقد صفقة مع حزب البارزاني فهو كما يشاع يعتزم البقاء في رئاسة الحكومة العراقية عبر تشكيل حزب أو قائمة ستدخل في الانتخابات النيابية القادمة وهو بهذا سوف يحتاج إلى دعم حزب البارزاني وكتلته النيابية لتحقيق هدفه ويبدو أن ثمن الصفقة سيكون بإرضاء البارزاني والقبول بتكريس الحساب البنكي للتوطين بالمصارف الأهلية التابعة لحزبه وبالتالي إفراغ مضمون قرار المحكمة الاتحادية .
ان مجرد قبول الحكومة الاتحادية بالتوطين عبر المصارف الأهلية ستكون ضربة قاضية لاستقلالية وهيبة القضاء العراقي وسيادته وخصوصا المحكمة الاتحادية العليا وإلزامية قراراتها على السلطات كافة في العراق بما فيها سلطات الحكومة الاتحادية ورئاسة الجمهورية وجميع مؤسسات الدولة .
كعادته يلعب الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البارزاني لعبة الصفقات السياسية لتمرير مطالبه وتحقيق أهدافه الحزبية الضيقة ويتعامل بفوقية واضحة مع السلطات الاتحادية بما فيها القوى السياسية الكبرى . يبقى أن نقول بأن سيادة الدولة العراقية وهيبة قضائه المستقل دستوريا أصبح على المحك في هذا الموضوع ، فإما تطبيق القرار الملزم كما جاء ، أو أن يدق مسعود البارزاني آخر مسمار على نعش القضاء العراقي وهيبة الحكومة الاتحادية . والسلام .