شاعر وروائي فلسطيني
يُعد كتاب “الحرب” لبوب وودورد نافذة نادرة إلى عالم السياسة الأميركية في أدق حالاته وأشدّها خطورة، عالمٌ تتشابك فيه الطموحات الشخصية والمخاوف القومية، وتتنازع فيه القوة مع الحكمة، وتتصارع فيه الآراء حول كيفية إدارة السلم والحرب. وودورد، بأسلوبه الاستقصائي المتميز، لا يكتفي بعرض الأحداث كحقائق جافة؛ بل يقدم تجربة استثنائية تجمع بين السرد والتحليل، كاشفًا عن الأبعاد النفسية والاجتماعية التي تؤثر على صنع القرار السياسي في أميركا.
1. بين موسكو وواشنطن: رقصة القوة والحذر
تتناول فصول الكتاب بعمق السياسة الخارجية الأميركية تجاه روسيا، مسلطة الضوء على الطريقة التي تتعامل بها إدارة الرئيس جو بايدن مع التهديد الروسي، خصوصًا فيما يتعلق بأزمة أوكرانيا. وودورد يعرض لنا ديناميكيات العلاقات بين بايدن وبوتين، وهما زعيمان يمثلان نهجين متباينين؛ بوتين بشخصيته المعروفة بالحذر والثبات والعناد، وبايدن الذي يعكس إرثًا طويلاً من الخبرة الدبلوماسية، لكن أيضًا الحذر الأميركي التاريخي تجاه روسيا.
في مشهدٍ يصوره وودورد، يجلس بايدن في المكتب البيضاوي مع مستشاره للأمن القومي جيك سوليفان، يناقشان التحركات الروسية على الحدود مع أوكرانيا. يطرح سوليفان مخاوفه من أن هذه التحركات قد تكون مقدمة لغزو، بينما يتحدث بايدن عن “إعادة ضبط” العلاقات، مؤكدًا على حاجة أميركا لعلاقة مستقرة يمكن التنبؤ بها. هذا الحوار يكشف التوتر الداخلي بين رغبة أميركا في التهدئة وحذرها العميق من توسع النفوذ الروسي في المنطقة، ويعكس أيضًا رغبة بايدن في أن تكون سياساته متوازنة، تحافظ على مصالح بلاده دون أن تُشعل حروبًا لا يمكن التنبؤ بنتائجها.
يرسم وودورد صورة بايدن وهو يتأمل خطوة عقد لقاء شخصي مع بوتين، متسائلًا إذا كان يمكن لهذه الخطوة أن تعيد شيئًا من الاستقرار إلى العلاقة بين البلدين. لكنه لا يخفي صعوبة المهمة؛ فالكرملين تحت قيادة بوتين لا يتردد في عرض قوته، سواء من خلال حشود عسكرية أو مناورات سياسية، مما يضع أميركا في مواجهة دائمة مع التهديدات التي يثيرها بوتين في أوروبا الشرقية.
2. أميركا تحت النار: حين يتحول الداخل إلى عدو
يتناول الكتاب أيضًا الفترة المضطربة التي تلت انتخابات 2020، مشيرًا إلى أحداث اقتحام الكابيتول في السادس من يناير 2021 كعلامة فارقة في التاريخ الأميركي الحديث. كان هذا الحدث بمثابة لحظة قطيعة حادة، حيث انقسمت البلاد على نفسها، وتحولت أروقة السلطة إلى ساحة حرب داخلية. وودورد يأخذنا إلى قلب هذه اللحظات الفاصلة، حيث نرى كيف اهتزت أركان الديمقراطية الأميركية أمام أعين العالم.
يستعرض الكاتب تفاصيل اللحظات التي وقف فيها الرئيس السابق دونالد ترامب يراقب أنصاره وهم يقتحمون الكابيتول، بينما كان قادة الكونغرس، مثل نانسي بيلوسي وكيفن مكارثي، يسارعون إلى تأمين مبنى الكابيتول وإنقاذ العاملين فيه. في تلك اللحظات كان هناك اتصال هاتفي محتدم بين مكارثي وترامب، حيث طلب مكارثي بشدة من الرئيس التدخل لوقف أعمال الشغب. لكن وودورد يكشف كيف اختار ترامب الصمت أو التريث، مسجلًا بذلك لحظة حاسمة في مسيرته السياسية.
يتناول وودورد بدقة تبعات هذا الحدث، حيث شكّل اقتحام الكابيتول صدمة كبرى لمؤسسات الحكم، وكشف عن الهشاشة الكامنة في البنية السياسية الأميركية، وعن عمق الانقسامات التي تعصف بالبلاد. وكأن وودورد يقول: إن أميركا التي كانت تباهي العالم بقوتها وثبات مؤسساتها أصبحت اليوم تواجه شبح الانهيار من الداخل.
3. صراع القوى: إدارة بايدن وتحديات استعادة الثقة
يتعمق الكتاب أيضًا في التحديات التي تواجه إدارة بايدن، ليس فقط على الصعيد الدولي، بل في إصلاح الشرخ الداخلي الذي خلفته فترة ترامب. وودورد يصف هذه التحديات بأنها أكبر مما قد يتوقعه البعض، فبايدن يجد نفسه أمام مسؤولية استعادة الثقة في المؤسسات الديمقراطية، وترميم علاقات أميركا بالعالم، بعد أن تعرضت للتشكيك والتقويض.
ومن أبرز التحديات التي يركز عليها وودورد، التحدي الاقتصادي والصحي، حيث ترث إدارة بايدن أزمة جائحة كورونا، بالإضافة إلى آثار الانقسام الاجتماعي والسياسي. في إحدى المقابلات داخل الكتاب، يصف أحد مساعدي بايدن بأن مهمتهم الأساسية هي “إعادة تشغيل” الحكومة، كأنما كانوا يزيلون آثار عاصفة اجتاحت البلاد.
ووسط هذه التحديات، يظهر وودورد جوانب من شخصية بايدن التي تبرز عمق التزامه بإصلاح ما أفسدته الإدارة السابقة، متحدثًا عن محاولات بايدن الحثيثة لإعادة هيكلة السياسات العامة بطريقة تحظى بثقة الشعب الأميركي، وعن مساعيه لإظهار القيادة الرزينة.
4. أسلوب وودورد: مزيج من التحليل والدقة التاريخية
يتميز وودورد في هذا الكتاب بأسلوبه المميز الذي يجمع بين السرد الأدبي والتحليل السياسي، حيث يسرد الأحداث بتفاصيل دقيقة مستندًا إلى مصادر وشهادات من داخل البيت الأبيض ومن كبار المسؤولين. وودورد لا يكتفي بتقديم الرواية التقليدية للأحداث؛ بل يحرص على أن يترك للقارئ مجالًا لاستنتاجاته، مشجعًا على فهم ديناميكيات صنع القرار من زاوية عميقة تجمع بين السياسة والأيديولوجيا.
في هذا السياق، يقدم وودورد لمحة عن الحياة اليومية داخل إدارة بايدن، وعن النقاشات التي تدور حول الطاولة في لحظات صنع القرار، ويعطي القارئ فرصة ليكون شاهدًا على أحداث كان لها بالغ الأثر على العالم. أسلوب وودورد هذا يجعل الكتاب ليس مجرد سجل للأحداث؛ بل وثيقة إنسانية عميقة تعكس طموحات وأخطاء القادة، وتكشف عن نقاط ضعفهم وقوتهم.
خاتمة: كتاب في السياسة وفلسفة السلطة
“الحرب” ليس فقط كتابًا عن أحداث سياسية، بل هو أيضًا تأمل عميق في فلسفة السلطة، وما يعنيه أن يكون القائد مسؤولًا أمام التاريخ وأمام ضميره. وودورد، بأسلوبه الذي يمزج بين الاستقصاء والدراما، يقدم صورة حية عن كيفية صنع القرار في ظل ضغوط غير مسبوقة، وكيف تتجلى في لحظات الحسم معالم الشخصية القيادية الحقيقية.
هذا الكتاب، إذاً، ليس مجرد قراءة ممتعة، بل هو مرآة تعكس لنا خفايا القوة وهشاشة السلطة، وتدعونا للتأمل في المصير المشترك للعالم الذي يتأثر إلى حد بعيد بقرارات ومواقف قادة أقوياء، قد يكونون أيضًا ضعفاء بقدر ضعف الإنسان ذاته.