اتفق الحكماء وأصحاب العقول السليمة على صيانة النفس , وحثت الديانات ولاسيما الاسلام على وجوب حفظ النفس , لذلك قال بعض رجال الدين : (( حفظ النفوس في شرعنا من أهم الواجبات )) بل ان حفظ النفس من الضروريات المتفق عليها بين سائر الملل والنحل , وقد اهتم كتاب القران الكريم بالنفس البشرية اهتماما كبيرا ؛ اذ وصف المجرم الذي يقتل شخصا واحدا بأنه كالمجرم السفاح الذي يقتل الناس جميعا ؛ واما الذي يحي تلك النفس وينقذها من الهلاك ويحافظ عليها من الموت ويدفع عنها سهام الردى , فكأنما يحيي بفعله هذا الناس جميعا : (( من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا )) وهنالك الكثير من الآيات القرآنية والروايات الاسلامية التي تبين العاقبة الوخيمة للقتلة المجرمين في الدنيا والاخرة , وكلها تدور حول تجريم قتل النفوس وازهاق الارواح بغير حق , والسعي في احيائها بالحق وبما يعود بالنفع على البشرية جمعاء , ومهما تنوعت عبارات تلك الآيات والروايات فإن المقصود هو تحذير الناس من الظلم والعدوان والقتل والعنف ، والحث على إحياء النفوس وإنقاذها بالحق ، فمن أحياها ببيان تحريم قتل النفوس بغير حق والدعوة إلى الحذر من هذا الجرم فقد أحيا الناس جميعًا، وهكذا من كف عن سفك الدماء بغير حق دخل في ذلك، ومن عفا عمن قتل ذويه يرجو ما عند الله دخل في ذلك ايضا ، فضلا عن من انقذ انسان من القتل وخلصه من الموت .
الإنسان مجبول على حماية نفسه والدفاع عنها , لذا جرت السيرة العقلانية لبني البشر على ذلك , فلا يقدم على الموت او التهلكة الا من كان احمقا او ساذجا او مريضا او مؤدلجا او مغيبا عقليا او مخدرا … الخ ؛ نعم هنالك استثناءات مذكورة في محلها كالجهاد بأمر الامام او الدفاع عن النفس وغيرهما , لذا ترى المرء يعمل على حماية نفسه من خلال الابتعاد عن مواطن الخطر والنأي بالنفس عن موارد الهلاك ؛ لذلك أكدت آيات القران الكريم على وجوب حفظ النفس وعدم القاءها في التهلكة , وقد جاء في الآية 195من سورة البقرة : (( وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ )) وتميز اتباع ال البيت من المسلمين الشيعة عن غيرهم من فرق الاسلام بالتأكيد على مسألة حرمة إراقة الدماء والحفاظ على النفوس جهد الامكان ؛ وعملوا على حماية المؤمنين والاتباع الضعفاء من بطش المخالفين والمجرمين والكفار الاقوياء ؛ من خلال تشريع التقية , وبناء على ذلك تنازل الامام الحسن الهاشمي عن الحكم لخصمه اللدود الحاكم معاوية الاموي , لأنه كان يعلم علم اليقين بالإمكانيات الحقيقية لكلا الجيشين والملابسات والتحديات والمشاكل العويصة الواقعية التي يواجهها مجتمع الكوفة , والتي تفضي الى رجحان كفة معاوية وجيشه على جيش الامام الحسن , وتجنبا لمعارك الاستنزاف وحروب الخسارات المحتمة التي تقضي على الحرث والنسل وتحرق الاخضر واليابس ؛ قرر الامام الحسن ايقاف الحرب والتنازل عن الحكم ؛ من باب أهون الشرين وأقل الضرر ؛ وكذلك فعل الائمة من بني هاشم لاسيما , الائمة من ذرية الامام الحسين فقد التزموا بالتقية والحذر وابتعدوا عن المواجهات المسلحة وحثوا اتباعهم على التزام التقية والنأي بالنفس عن مواطن مقارعة الظالمين والطغاة الجلادين والابتعاد عن خوض المعارك الخاسرة والثورات الفاشلة ؛ الا ان هذا الامر لا يعني انصياع كافة فرق وشخصيات الشيعة لهذه الوصايا والتزامهم بها , اذ انخرط البعض منهم في المواجهات المسلحة والثورات ضد الحكام والولاة الظالمين ؛ الا ان البعض منهم قد تعرض للنقد والاستنكار من قبل الائمة ؛ فعلى الرغم من ثورات البعض ضد الحكام الظالمين وسقوطهم ضحايا على ايدي القتلة المجرمين ؛ لعنهم الائمة وشجبوا حركاتهم وبينوا انحرافها وتبرؤا منها ومن اصحابها القتلى , بل ان الائمة توعدوا اتباعهم من المسلمين بالويل والثبور وعظائم الامور في الدنيا والاخرة ؛ اذا ما قام هؤلاء بكشف اسرار ال البيت وبينوا دعوتهم او غالوا بهم وعرفوا باتباعهم امام الاعداء ؛ ومما جاء بهذا الامر : ((قال أبو عبد الله عليه السلام يوما لأصحابه : لعن الله المغيرة بن سعيد … , إن المغيرة كذب على أبي عليه السلام فسلبه الله الايمان، وإن قوما كذبوا علي مالهم أذاقهم الله حر الحديد … ؛ وعنه ايضا : من أفشى سرنا أهل البيت أذاقه الله حر الحديد … )) .
وقد حذر النبي محمد المسلمين والمؤمنين من التهور وتعريض انفسهم للذل او تحميلها ما لا تطيق ؛ اذ قال : (( لا ينبغي للمؤمن – وفي حديث اخر : لا ينبغي لمسلم – أن يذلّ نفسه ، قالوا : وكيف يذلّ نفسه ؟ قال : يتعرّض من البلاء لما لا يطيق )) اذ ان اقتحام الصعاب ومواجهة الاعداء الاقوياء من قبل الناس العزل والضعفاء ؛ مما يوجب الذل والهزيمة واهدار الكرامة , وقد نصح العقلاء والحكماء الناس بعدم التكلم بالحق من موقع ضعف , اذ عندها الحق لا يطبق والمتكلم به يقتل او يشرد او يعتقل ويعذب كالأسير .
وطالما حذر ال البيت اتباعهم من المؤمنين والمسلمين من التعرض للمجرمين ومخاصمة الظالمين واعلان الحرب على الحكام والطغاة والجلادين , وقد ارسل الامام جعفر الصادق رسالة الى اصحابه , جاء فيها : (( … وعليكم بمجاملة أهل الباطل ، تحملوا الضيم منهم ، وإيّاكم ومماظتهم … )) وبالجملة ، فان مخالطة أهل الباطل والجور واصحاب القوة والنفوذ والسطوة والسلطة عند غلبتهم ضرورة لا بدّ منها ؛ وقد نهجها من قبل مؤمن آل فرعون وأصحاب الكهف وغيرهما كما جاء في الآيات القرآنية .
وحذرت الروايات الدينية كما حذر العقلاء واصحاب الضمائر الناس من التسبب المباشر او غير المباشر بقتل الناس وازهاق ارواحهم وتعريضهم للخطر , اذ جاء فيها : (( … من رأى منكم حية تحوم حول اخيه ؛ فقتلته الحية ولم يخبره , هو شريك في دمة …!! )) بل ان المشرع الاسلامي شمل بالعقوبة الشخص الذي رأى رجلا يقتل ولم يهرع الى نصرته ولم ينقذه من بطش القاتل , ومن خلال ما تقدم نعرف ان مفهوم جريمة القتل قد يتوسع – او لا اقل العقاب – ليشمل الشخص الذي اغرى القاتل بالقتل , او رأى اخاه وهو قاب قوسين او ادنى من الهلاك ولم يخبره او ينقذه , او الشخص الذي يقوم بإغراء البسطاء من الناس ودفعهم الى مهاوي التهلكة … الخ ؛ فأمثال هؤلاء دماء الضحايا في رقابهم , بل هم شركاء في اراقة الدماء , لذلك كان البعض من رجال الدين يهربون من الفتيا التي تتعلق بإزهاق الارواح وقطع الرؤوس ؛ هروبهم من الاسد .
والكثير من قادة فرق الشيعة في مشارق الارض ومغاربها ؛ عملوا على حماية ارواح اتباعهم والحفاظ على نفوسهم من العطب , وعاشوا بأمن وامان في مجتمعاتهم , والتاريخ مليء بالشواهد الكثيرة , فقد جنب رجال الشيعة الماضين المدن العراقية الشيعية من خطر اجتياح المغول … , وحذر العديد منهم جماهير الشيعة الضعفاء من مغبة مواجهة القوى العسكرية الظالمة والحكام الاقوياء , بينما ارتكب البعض من المحسوبين على رجال الدين حماقات او اتخذوا قرارات متسرعة ارتجالية ؛ أودت بحياة الاف الضحايا من الاغلبية العراقية فضلا عن دخول الالاف الى غياهب السجون وغرف التعذيب .
قد يعذر البعض من الذين تسنموا مواقع القيادة الدينية والسياسية والاجتماعية والثقافية للأغلبية العراقية , وتغفر لهم اخطاءهم الفادحة وقراراتهم الطوباوية وشعاراتهم الهلامية وهشاشة تنظيماتهم وتجمعاتهم وسوء تصرفاتهم فيما مضى ؛ وذلك لانعدام خبرتهم السياسية وابتعادهم عن مصادر القرار المحلي والعالمي , وتفشي الجهل والتخلف والرؤى السوداوية والطوباوية فيما بينهم , وندرة الكفاءات المهمة والاختصاصات العلمية الدقيقة والمتنوعة , فضلا عن اقصائهم وتهميشهم وافقارهم ومحاصرتهم من قبل الاعداء ؛ ولعل البيت الشعري التالي ينطبق على واقع قيادات الاغلبية في السابق ؛ اذ قال الشاعر :
علمتُ بتجريبي أمورا جهلتها *** وقد تُجهَل الأشياء قبل التجارب
ومَنْ ظَنَّ أمْواه الخضارم عَذْبَةً ***قضى بخلاف الظنّ عند المشارب
الا ان المشكلة تكمن في ان البعض من ذلك البعض ؛ لا يعترف بالخطأ ولا يراجع حساباته ولا يعرف قدره وحقيقة امره , ويعتقد ان كلامه الفصل وقوله الحق , وانه كالكعبة يجب ان يزار ولا يزور ؛ وهنا تكمن مصيبة الاغلبية وبلاءها المزمن , وقد يظن البعض ان مرض النرجسية والشعور الزائف بالعظمة والاهمية , وسمة الدوغمائية قد تصيب الجهلة والامعات من الرجال وانصاف المتعلمين والمثقفين والسياسيين وسقط المتاع من السياسيين والاعلاميين ورجال الدين ؛ اذ قد يصاب اصحاب الشهادات العليا وذوي الكفاءات والمهارات والشخصيات بها ايضا , فهؤلاء يعتقدون ان الحق معهم يدور حيثما داروا , ويختبئون تحت عباءة الدين او العشيرة او العائلة او المال والنفوذ او المنصب , ولديهم نسق محدد من التفكير لا يستطيعون الخروج منه , لذا ترى الجميع في تطور وحيوية وتقدم الا هم كالحجارة لا يتغيرون ولا يتبدلون ولا يتزحزحون عن مواقعهم ومناصبهم وامتيازاتهم , وهم كالنعام عندما يواجهون التحديات الفكرية والثقافية والسياسية والاقتصادية والعسكرية يضعون رؤوسهم في رمال التعصب الفكري والانغلاق والتحجر الايدلوجي , ولا يفكرون مجرد تفكير بالاطلاع على افكار غيرهم او الاجابة عن اشكالات البعض عليهم ؛ حتى مع وجود دلائل قوية تشكك في صحة معتقداتهم وآرائهم وافكارهم وقراراتهم , وتفند ما يؤمنون به ؛ تراهم يسعون جاهدين لمحاربة كل ما يخالف توجهاتهم ؛ ولا يسمحون للغير بمجرد التشكيك بها او الاعتراض عليها ، وقد عرفها – الدوغمائية – العالم الأميركي ميلتون روكش : بأنها تعني عدم قدرة الشخص على تغيير أفكاره عندما تتطلب الشروط الموضوعية ذلك، فلا سبيل لمراجعة الأفكار لتعديلها أو تبديلها حتى عندما توجد أسباب تستدعي المراجعة …!!
الاعتراف بالخطأ , ومراجعة الحسابات وتغيير السيرة وتصحيح المسيرة , ومجاراة الواقع , ومعرفة السنن الكونية وقوانين الحياة , وادراك اسباب تقلبات الاحوال وتحول الظروف من حال الى حال والتكيف مع الاحداث ؛ ثقافة غائبة في مجتمعنا , فالبعض يعدها من علامات ضعف الشخصية او تقلبها وتلونها او من الامور التي توهن الشخص وتضعف تأثيره وتذهب بهيبته ؛ لذا تراه متحجرا لا يسمع لا يرى لا يتأثر , ومثابرا على نفس التصرفات والافعال , وثابتا في نفس الطريق المسدود , وسائرا بنفس الدرب المغلق , ورافعا للشعارات العتيقة … الخ ؛ وسلوكهم هذا مغاير تمام المغايرة لما جاء في التراث الشعبي والآيات والروايات الدينية التي تحث الفرد على الاعتراف بالخطأ واعلان التوبة من الخطيئة والاقلاع عن الجريمة , فالاعتراف بالخطأ والتقصير والفشل , يدفع المرء الى المراجعة الطوعية الواعية للأعمال والافعال والاقوال والافكار , التي يقوم بها الإنسان تجاه اتباعه و محيطه الاجتماعي والسياسي والديني والثقافي … , وقد اخبرنا كتاب القران الكريم بأن الاعتراف بالخطأ هو أهم ما يمتاز به الإنسان عن إبليس، إذ اعترف آدم وحواء بالخطأ الذي ارتكباه حين أكلا من الشجرة المحرمة. لكنَّ إبليس “أبى”، وراح يبحث عن عذر لتبرير عصيانه وغروره قائلًا : {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} ولا يقتصر الاعتراف بالخطأ على الأخطاء السلوكية ، وإنما يشمل الأحكام العقلية الجائرة ، والتصورات الذهنية المشوهة , والشعارات الطوباوية , والاليات البائسة والوسائل القذرة , والأيدولوجيات المتخشبة , ولعل الاعتراف بالأخطاء الفكرية والدينية والسياسية أكثر صعوبة من الاعتراف بالأخطاء السلوكية ؛ فالتراجع عن الأفكار الخاطئة والعقائد السوداوية والتقاليد والعادات البالية يحتاج إلى شجاعة كبيرة ، نظرًا إلى ما يتضمنه من مخالفة للثقافة السائدة ، والمعتقدات الشعبوية الرائجة … ؛ ولعل المرحلة التاريخية والمصيرية الراهنة التي تمر بها الاغلبية والامة العراقية تجعلها أحوج ما تكون الى رجال وقادة يملكون شجاعة الاعتراف بأخطائهم أمام قواعدهم الجماهيرية ونخبهم الحزبية ، ويكونوا قدوة ومثالًا للناس … ؛ الا انه من الصعب جدا اعتراف القادة الدينيين والسياسيين بأخطائهم أمام المجتمع ؛ لأنه يستلزم تنحيهم او تصحيحهم لأخطائهم ؛ اذ لا قيمة للاعتراف بالذنب من دون التكفير عنه ؛ كذلك لا وزن لكلام المسؤول الذي يعترف بفشله وارتكابه للأخطاء من دون السعي الجاد لتصحيح الاخطاء وتدارك ما فاته .
الان وبعد التجربة السياسية للأغلبية العراقية , وما مرت به من احداث جسام وتحديات كثيرة وعلى مختلف الاصعدة بعد انهيار النظام البعثي الهجين عام 2003 , لا توجد مسوغات للأخطاء الجسيمة ولا تقبل الاعذار من القادة والساسة فيما يخص التفريط بالثروات والخيرات والمقدرات الوطنية او تعريض ابناء الاغلبية والامة العراقية للهلاك والحروب الخاسرة ومعارك الوكالة , او جلب الويلات والازمات والخسائر والانتكاسات لمدن ومحافظات الجنوب والوسط العراقي بل العراق كله , وعليه يجب على رجال وساسة وقادة الاغلبية العراقية التفكير بواقعية والحذر الشديد والدراسة المعمقة وبعد النظر الاستراتيجي قبل الاقدام على اتخاذ القرارات السياسية والاقتصادية وغيرها ؛ فضلا عن اعلان قرار الحرب او المقاومة او الدخول في محاور اقليمية تهدد السلم الاهلي والامن المجتمعي المحلي .
لان هؤلاء هم المسؤولون الان عن أمن واستقرار وازدهار الاغلبية والامة العراقية , فكل ما تتعرض له الاغلبية العراقية من عدوان عسكري خارجي او ارهابي داخلي او تمرد محلي , وكل ما تعيشه مدن ومحافظات الاغلبية العراقية من مأساة وبؤس وخراب وفقر ودمار وفساد وازمات … الخ ؛ يتحمل مسؤوليته التاريخية والانية هؤلاء , فأما ان يكونوا على قدر المسؤولية الوطنية والمهمة التاريخية واما ان يتنازلوا لمن هو أكفأ واشجع واذكى منهم , والا خسروا الدنيا والاخرة معا , وباءوا بغضب الجماهير ولعنة الاغلبية التاريخية .
وللأسف الشديد يعمل بعض الحمقى والسذج والجهلة والمرتزقة والعملاء من رجال الدين والساسة المتعصبين والطائفيين ؛ على اثارة النعرات الطائفية وتأجيج مشاعر العداوة لدى الاخرين , واستفزاز المخالفين , وتحويل شيعة العراق الى اقلية محاصرة ومستهدفة اعلاميا وعسكريا واقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وثقافيا … الخ ؛ بل والزج بأبناء الشيعة العراقيين للاصطدام مع القوى العسكرية الاجنبية والحركات الارهابية والتدخل في الشؤون الداخلية لهذه الدولة او تلك , او الانخراط في محاور اقليمية او دولية لا ناقة لنا فيها ولا جمل او ضررها اكثر من نفعها , او اعلان الحرب من دون التنسيق مع الحكومة العراقية او المرجعية الدينية او النخب العراقية , فلا يقبل من البعض اطلاقا تزمته بالرأي واعلانه للحرب او المقاومة بحجة مقارعة الامريكان او نصرة فلسطين او غيرهما من القضايا السياسية المعقدة , وبذريعة ان رأيه بما انه ديني او يرتكز على تقليد ديني معين ؛ فلا يأبه برأي الاغلبية ونخبها واحرارها ورجالها او بالمرجعية الدينية والاحزاب والحركات السياسية الاخرى … ؛ اذ ان للحرب شروطها الموضوعية , لذا قيل : ان توقيت الدخول في الحرب نصف الحرب , وكل ثورة او حركة تنطلق قبل اوانها تقمع عند اندلاعها فورا , والله امر المسلمين في كتاب القران الكريم بإعداد العدة قبل خوض الحروب , فلا يعقل ان يسعى البعض الى شن الحرب على القوى الدولية الغاشمة والاقليمية القوية مع ضعفه وقلة العدد والعدة وغياب الناصر , اذ لا يقدم على مواجهة الاعداء الاقوياء من مواقع الضعف والهوان والانكسار الا من كان احمقا او متهورا او مرتزقا مأجورا او جاهلا , ونحن عندما ندعو قادة ورجال وساسة الاغلبية الى تجنب الحروب والمواجهة العسكرية مع القوى الدولية الكبرى ؛ فهذا لا يعني التفريط بمصالحهم وامتيازاتهم وحقوقهم او اهمال هويتهم الدينية , او اهدار كرامتهم ؛ وانما تجنب الدخول في حروب خاسرة مع الاخرين الاقوياء , والحفاظ على نفوس الشيعة الضعفاء والعمل على تنمية قدراتهم واعداد العدة والعدد لمواجهة التحديات , والنأي بالنفس عن الازمات والحصار والمضايقات والانتكاسات , وتطوير واقعهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي بما ينعكس عليهم بصورة ايجابية , فليس من المعقول والمقبول ان يتبرع الشيعة بأموالهم وهم فقراء وان يقاتلوا الاعداء وهم ضعفاء وان يعارضوا الانظمة الحاكمة والقوى الكبرى وصفوفهم مليئة بالخونة والعملاء , وان وقع المحذور لا سامح الله وتم جر الشيعة الى الحرب رغما عنهم , عندها لابد للشيعة من الاتفاق مع القوى الدولية الكبرى او الانظمة السياسية في هذا البلد او ذاك , والتسلح بأفضل انواع الأسلحة واحدثها والضرب بيد من حديد , والرد على الاعداء بنفس الاساليب والطرق , حتى وان كانت بشعة ومخالفة للقيم الانسانية والقانونية , لان الشر لا يدفع الا بالشر ولا يفل الحديد الا بالحديد , والمثاليات والشعارات الطوباوية لا تجدي في المعارك المصيرية ولا تنفع ؛ والا ما نفع حرب مع عدو يطلق صاروخ واحد يقتل فيه الف شيعي , بينما يطلق الشيعي الف صاروخ على العدو من دون وقوع ضحايا من الاعداء , فعندها تخسر الشيعة النفوس والاموال بينما يسرح العدو ويمرح وكأن شيئا لم يكن …؟!
ومن الواضح ان الحروب غير المتكافئة لا يقدم عليها الحكماء واصحاب العقول الراجحة و النظرات الاستراتيجية البعيدة ؛ فليس من المعقول والمقبول ان يقدم هذا السياسي او تلك الجماعة المسلحة على اعلان الحرب ضد دولة قوية , اذ لا يوجد تكافؤ في الاسلحة والعدد والتكنولوجيا والتقنيات والخطط والتكتيكات العسكرية بين الطرفين ؛ اذ تترتب على عدم التكافؤ في الحرب عدة عواقب وخيمة , فالطرف الأكثر ضعفا من الناحية العسكرية والتقنية والاقتصادية والاعلامية يتكبد خسائر فادحة بالممتلكات والمعدات والارواح فضلا عن تشويه صورته عالميا بل وفي محيطه المحلي ايضا .
الساسة الوطنيون و الحكومات الرشيدة والجماعات والاحزاب السياسية الحكيمة لا تقدم على خطوة الحرب او اعلان الهجوم العسكري الا وهي تحسب لها ألف حساب , وتأخذ بعين الاعتبار الاثار والتداعيات التي تترتب على هذا الفعل الحكومي او ذلك القرار السياسي , ومن هنا تعرف سر احجام الكثير من الساسة والحكومات القوية على خوض المعارك واعلان الحروب , لانهم يعلمون علم اليقين , ان اثار الحرب قد تكون اشد تأثيرا واخطر فتكا من الحرب نفسها ؛ فقد تستمر تداعياتها ونتائجها الوخيمة الى عدة عقود طويلة .
اما الجهلة والعملاء والامعات وانصاف الساسة والمثقفين والمرتزقة والاغبياء ؛ لا يعيرون أية أهمية لما مر , فهم لا يعرفون لغة العلم وسطوة الواقع , ولا يستطيعون التحدث وفقا لمعطيات الدراسات والابحاث والاحصائيات العلمية والارقام الواقعية ؛ اذ لا يفقهون سوى الشعارات الطنانة والخطب الرنانة والادعاءات الطوباوية والامكانيات الوهمية والانتصارات الكاذبة , وتجيير التاريخ والدين والاعراف والعادات والتقاليد الاجتماعية ومكونات المجتمع لصالح اجنداتهم الترقيعية والمشبوهة والفاشلة , وهم وعلى اختلاف اجنداتهم وتوجهاتهم السياسية والدينية والقومية والثقافية والاجتماعية يتفقون على هذا السلوك الهجين ؛ لان مخرج تلك الاحداث المتناقضة والمختلفة والمتتالية والمستمرة واحد ؛ الا وهو تدمير العراق والحاق الضرر بالأغلبية والامة العراقية , وتحقيق مصالح الدول الاقليمية والخارجية على حساب مصالح الشعب , ونهب ثروات وخيرات الوطن وهدرها وتبديدها بأوامر خارجية .
نعم خبر العراقيون الحروب الخاسرة وعرفوا مرارة المعارك الرهيبة , وتكبدوا بسببها المشاق والبلاءات والعذابات والخسائر , وعانوا الامرين , اذ فقدوا الاحباب والاباء والابناء , وامتلأت البلاد بالضحايا من الايتام والارامل والجرحى والمعاقين ؛ وحرموا من الحياة المدنية الكريمة , ولم يحققوا مكسبا واحدا من اية حرب او حركة مسلحة , بل على العكس , اذ تزامنت الخسائر والتنازلات والاتفاقيات المذلة مع تلك الحروب ؛ لان النصر في الحرب لا يتحقق بسرعة البرق وبتكلفة زهيدة، كما يتوقع السذج والحمقى والجهلة ؛ ومن هنا تعرف ان قرار انهاء الحرب اشد وطأة من اعلان الحرب نفسها .
وليكن في علم ساسة ورجال الاغلبية والامة العراقية : إن الحروب الحديثة مروعة ومدمرة للغاية لدرجة أنها قد تمسح قرى ومدن من وجه الخريطة , وقد تكبد البلاد والعباد ما لا طاقة لهم بحمله , فضلا عن ان الصراعات والمناوشات العسكرية بين الاطراف الضعيفة او ذات الامكانيات البسيطة وبين القوى الكبرى لا يمكن أن تؤدي أبدا إلى أي شيء يمكن أن يطلق عليه النصر، فكل نجاح يتحقق في ميدان المعركة هنا او هناك ؛ قد يكون بتكلفة دموية هائلة ومادية فادحة بحيث يصبح تسميتها نصرا فكرة مثيرة للسخرية ؛ وعليه جنبوا انفسكم وبلادكم واهلكم مهاوي الردى , والسعيد من اتعظ بغيره والشقي والساذج من اتعظ بنفسه .