18 ديسمبر، 2024 8:19 م

حزب الله بعد استشهاد السيد نصر الله

حزب الله بعد استشهاد السيد نصر الله

إن حزب الله في لبنان قد وقف منذ تأسيسه عام 1982م حتى استشهاد أمينه العام السيد حسن نصر الله، رضي الله تعالى عنه بين خيارين، أحدهما أن يكون تنظيما جهاديا يتعاطى الشأن السياسي، والآخر أن يكون تنظيما سياسيا يتعاطى الشأن الجهادي، ولم يفرط بأي منهما، كان كلاهما، مرة يكون هذا، ومرة يكون ذاك، حتى بعد اختيار السيد نصر الله للأمانة العامة للحزب عام 1992م، بعد استشهاد سلفه السيد عباس الموسوي، كان الحزب يمسك بالخيارين معا، فهو بكل وضوح حركة مقاومة، تريد ان تجد لمشروعها مكانا في منظومة دولة، تحتل إسرائيل جزء من أراضيها، التي حرر الحزب نفسه بعضها عام 2000م، واستمر الحزب ممسكا بالخيارين حتى عام 2006م، الذي شنت فيه إسرائيل عدوانا على لبنان، فتصدى لها الحزب، كاشفا عن قدرات قتالية كبيرة، ما رسم ملامح مرحلة جديدة، فرضت ظروفها الأمنية، على السيد نصر الله عدم الظهور، فكان لا يطل على الناس عموما وجمهوره بالخصوص، الا من خلال شاشة، باستثناء مرات قليلة جدا، وقد اعتاد جمهوره على هذا النوع من الظهور، الذي اضفى على شخصيته شيئا من الأسطورية، ما نحا بالحزب منحى ضخم كونه تنظيما جهاديا يتعاطى الشأن السياسي، على حساب كونه تنظيما سياسيا يتعاطى الشأن الجهادي، ربما لم تكن هذه إرادة السيد نصر الله نفسه، الذي جمع بين استقرار العقيدة، وقلق السياسة، كنت قد التقيته مرتين، احداها خاصة وفي مكتبه بالضاحية، كان دمث الخلق، مهذبا ودودا، ذا حضور وجاذبية، وباصطلاح المعاصرين كاريزما خاصة يشعر بها من يجالسه عن قرب، واجزم انها ليست ارادته، لانني لمست فيه واقعية الإسلام، لم تجد عند لقائك إياه مسافة بينك وبينه، كما اعتادت المؤسسة الدينية على وجود هذه المسافة بين العلماء الدينيين وبين عامة الناس، بل وبين القادة المقاومين وغيرهم من الناس، فلنصر الله ريادة في ابراز ملامح القائد المقاوم، فهو في هذا السياق عصامي، امسك زمام الريادة بلا مقومات مادية تذكر، ولكن بمقومات معنوية عظيمة، فمثلا قاسم سليماني، اسم ذو رمزية في المقاومة، ولكن رمزيته هذه تستفيد من إمكانيات الدولة الإيرانية الهائلة، اما نصر فرمزيته لا يسعفها الا فصيل صغير في دولة لبنان التي لا تقارن بايران في الإمكانيات، ولكن بريق رمزيته عظيم جدا.

إن المسافة بين السيد نصر الله وجمهوره، التي فرضها ظهوره من خلال الشاشة بسبب الظرف الأمني، أدت الى تراكم مسكوت عنه، تمثل في أسئلة كثيرة، قد تنطرح في اذهان متفرقة، لا تجد إجابات فتاخذ طريقها الى ذلك المسكوت عنه، الذي كلما عظم غيب وراءه صورة السيد نصر الله الحقيقة، واحل محلها صورا، كل شخص يشكلها بمخيلته، الملامح التي نجدها في كل الصور ان السيد على صواب دائما، فان اختلفت معه ما عليك سوى ان تنحى باللائمة على نفسك، وتعيد من ثم بوصلتك بالاتجاه الذي هو عليه، واجزم ان هذا ليس ما كان يريده السيد نصر الله، الذي يصغي الى من يكلمه حتى لكأنه يتعلم منه شيئا، وهذه صفة المحاور الناجح والمفاوض الفذ، فباستثناء كلمات الترحيب وحفاوة اللقاء هو صامت مصغ يستحثك على مواصلة الكلام.

إن هذه الحال اخفت حقيقة كون حزب الله تنظيما سياسيا يتعاطى الشأن الجهادي، وقدمته على انه تنظيم جهادي يتعاطى الشأن السياسي، وربما باخفائها تلك الحقيقة قد أسهمت في تعديل حتى في مشروع حزب الله، الذي لم يرده نصر الله الا مشروعا سياسيا إسلاميا.

حقا أنني لا اريد ان اخضع إرادة الله لمقولات المنطق، ولكنني افهم تلك الإرادة الإلهية المتعالية على انها حركة في سياق إرادة الحياة، فعندما تكون النوايا حسنة تصدق مقولة الخير فيما وقع، بل تنفرض مقولة الخير ما اختاره الله، وكانت النوايا حسنة ان شاء الله، فقد مضى نصر الله شهيدا، بل اضفى بشهادته نقاء على حركية إسلامية، ولكنه في الوقت نفسه اغلق الباب على مسكوت عنه تراكم طويلا، لا لينفتح باب آخر على مسكوت عنه اخر، يرافق من سيخلفه، بل اغلقه ليلغي هذه المفردة في وجه ذلك الخليفة، مثله مثل الحسين عليه السلام، مع الإقرار بفرادة الامام الحسين وقداسته، التي لم تكن لغيره ابدا، فلا يحق لاحد بعد الحسين ان يتكلم عن المعركة، أي معركة كانت، بمفردات الطف التي تكلم بها الحسين يوم عاشوراء، فهي مفردات لا يفك رموزها سوى الحسين، ومن ثم فان خليفة السيد نصر الله يجب ان يكون واقعيا يلغى كل تعديلات المشروع التي املتها ظروف امانة السيد نصر الله العامة، فنصر الله كان امينا عاما زائدا قيمة مضافة، وسيكون الآتي بعده، بلا شك، امينا عاما، ولكنه خلو من تلك القيمة المضافة، التي ردمت الهوة بين مشروع الحزب الحقيقي الذي أراده السيد نصر الله وبين المشروع المعدل الذي نمى في مخيلة جمهور الحزب، ومن ثم على خليفة السيد نصر الله أن يعترف على رؤوس الاشهاد بانه امين عام حزب لا يحتكر الساحة الشيعية، ولا يتفرد بقرارها، سياسي، بكل ما تعنية السياسة من كونها فن الممكن، الذي لا يتمحص حقيقة الا بجدلية الراي والراي الآخر المتمحورة حول المنهج النقدي، ولكنه حزب يتعاطى بالشان الجهادي، وذلك لان الساحة الشيعية في لبنان، التي اثخنت بالجراح وشرقت بكاس الألم، لا تحتمل اكثر من ذلك، كما ان الحركية الشيعية يجب ان تستقيم والحراك الوطني لينخرط الشيعة في مشروع الدولة، من دون ان يفكوا ارتباطهم بمشروعهم الديني.