18 ديسمبر، 2024 10:19 م

العراق وايران بعد زيارة بزشكيان

العراق وايران بعد زيارة بزشكيان

منذ الاعلان رسميا عن فوزه بالانتخابات الرئاسية الايرانية في الخامس من شهر تموز-يوليو الماضي، لم يترك الرئيس الايراني الجديد، مسعود بزشكيان، مناسبة او فرصة الا شدّد على اهمية تعزيز وتطوير العلاقات بأطارها العام الشامل مع العراق، ولم يترك مناسبة او فرصة الا وأكد دور العراق المحوري في المنطقة، واشاد بمواقفه الرسمية والشعبية، سواء في التقريب بين الخصوم، او في استضافة ملايين الزائرين كل عام، لاحياء ذكرى اربعينية الامام الحسين عليه السلام بالدرجة الاساس، فضلا عن العديد من المناسبات الدينية الاخرى الممتدة على مدار العام.

ولكي يترجم الرئيس بزشكيان اقواله وتأكيداته على ارض الواقع، ولايجعلها مجرد مجاملات سياسية يفرضها ويحتمها موقعه الجديد، فإنه اختار ان يكون العراق محطته الخارجية الاولى، وبالفعل جاء الى بغداد، ومنها ليزور كربلاء المقدسة والنجف الاشرف واربيل والسليمانية والبصرة، بعد ثلاثة اسابيع من نيل حكومته ثقة مجلس الشورى الاسلامي(البرلمان).

وفي واقع الامر، ان الرئيس الايراني الجديد، ومن خلال زيارته التأريخية المهمة للعراق، لم يبدأ من الصفر، وانما جاء ليكمل ما انجزه اسلافه من الرؤساء السابقين، الذين زاروا العراق، وحرصوا على ان يضعوا اسسا ومرتكزات رصينة وقوية لعلاقات استراتيجية تتمحور حول المصالح المتبادلة، والقواسم المشتركة، والتحديات المتماثلة.

ويمكن القول ان الرئيس بزشكيان، جاء لينجز ماكان من المفترض ان ينجزه الرئيس الايراني الراحل السيد ابراهيم رئيسي، الذي لم يمهله القدر لكي يقوم بالزيارة التي كانت مقررة له الى العراق، في صيف هذا العام.

عمل بزشكيان على ثلاثة مسارات في زيارته التي دامت ثلاثة ايام، المسار الاول تمثل بدفع وتيرة العلاقات الايجابية بين بغداد وطهران، عبر حزمة من مذكرات التفاهم، بلغت اربع عشرة مذكرة، في مجالات الامن، والتربية والتعليم، والصحة، والزراعة، والصناعة، والمياه، والمناخ، والاعمار، والبيئة، وغيرها.

وتمثل المسار الثاني في تعزيز الثقة، وازالة العقد والاشكاليات التي حالت او تحول دون تحقيق التكامل المطلوب في مجمل الملفات المشتركة بين الطرفين، سواء كانت فنية او سياسية.

في حين تمثل المسار الثالث، بتقوية محور المقاومة، بما يساهم في توفير المزيد من الدعم والاسناد للشعب الفلسطيني المظلوم، واضعاف الكيان الصهيوني الغاصب، وفي ذات الوقت، مواجهة الهيمنة الاميركية في المنطقة، وما تسببه من فوضى واضطراب وفتن وازمات.

وفيما يتعلق بالمسار الاول، فأن الرؤية المشتركة لكل من بغداد وطهران، تقوم على اساس استثمار وتوظيف كل الطاقات والامكانيات والفرص لتحقيق اكبر قدر من المكاسب والمنجزات لكل منهما. بحيث ان حجم التبادل التجاري السنوي الذي يناهز حاليا العشرة مليارات دولار، يمكن زيادته الى مستويات اعلى، وهذا ما نوه اليه بشكل او باخر الرئيس بزشكيان، وكذلك رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، وكبار المسؤولين العراقيين الاخرين في بغداد واربيل والبصرة.

ومن شأن هذا التوجه العملي، ان يخفف من الضغوطات الاقتصادية على ايران من جانب، وينشط السوق العراقية من جانب اخر. فضلا عن ذلك، فإن الاقتصاد يعد المفتاح الرئيسي لتفعيل ميادين السياسة والامن والميادين الاخرى.

وفيما يتعلق بالمسار الثاني، فإنه رغم الاشواط الطويلة التي قطعتها العلاقات العراقية الايرانية خلال العقدين الماضيين، الا ان هناك جملة من المعوقات والعراقيل لابد من معالجتها والتغلب عليها، بعضها يرتبط بالبيروقراطية والروتين، وبعضها يرتبط بغياب الخطط الاستراتيجية الواضحة، وبعضها يرتبط بالمؤثرات الخارجية، وبعضها يرتبط بضعف التنسيق والتواصل في بعض الجوانب والمجالات.

وواضح ان الرئيس بزشكيان، جاء ليفكك ويحلحل العقد مع اصحاب القرار في بغداد، عبر خطوات واجراءات عملية، لاتكتمل في غضون ثلاثة ايام، وانما تحتاج الى وقت طويل، بواسطة لجان مشتركة متعددة المهام والاختصاصات، تعمل وتتواصل بصورة دائمة.

والحرص على الذهاب الى اربيل والسليمانية والبصرة، وبحث القضايا التفصيلية مع المعنيين هناك بشكل مباشر، يعزز ذلك التوجه العملي الجاد. الى جانب ذلك، فإن ما يمكن ان نسميه بـ”الدبلوماسية الشعبية” التي استخدمها بزشكيان في زيارته للعراق، عكست في جزء منها طبيعة شخصيته البسيطة والمتواضعة، وعدم تقيده بالسياقات والضوابط البروتوكولية المحددة، وفي جزء اخر منها، انطوت على رسالة مفادها، ان العلاقات بين ايران والعراق، ليست كأي علاقات تقليدية تربط بين بلدين، وتكون محكومة بحسابات المصالح فقط، بل انها تمتد وتتشعب الى الكثير من الابعاد والمساحات الاجتماعية والدينية والثقافية والعقائدية العميقة.

فتحدثه باللغة الكردية، لوسائل اعلام كردية عراقية حول العلاقات بين ايران واقليم كردستان العراق، وارتدائه العباءة العربية في محافظة البصرة، ولقائه بنخب اجتماعية وعشائرية مختلفة، وزيارته للعتبات الدينية المقدسة في الكاظمية والنجف وكربلاء، وتجوله بصورة عفوية وسط حشود الزائرين، كلها اشارات مهمة، عبرت عن طبيعة وحقيقة التوجه والمنهج الذي اتبعه.

وبخصوص المسار الثالث، فإن الرؤية العراقية ومعها الرؤية الايرانية، تتمحوران حول حقيقة ان التحديات والتهديدات والمخاطر التي تواجه عموم دول وشعوب المنطقة، تتطلب مواقف موحدة وقوية ومتماسكة، لاسيما وان مجمل المشهد الاقليمي العام، يمتاز في المرحلة الراهنة بالاضطراب والارتباك، بسبب المجازر الدموية التي يرتكبها الكيان الصهيوني ضد ابناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، في ظل صمت وتعاطي دولي سلبي فاضح. وكما قال الرئيس الايراني من بغداد، “ان أمريكا تحاول تشويه الوحدة والتضامن بين المسلمين ودول المنطقة، لكننا نؤمن إيماناً راسخا بأننا جميعاً إخوة.. وان جرائم الكيان الصهيوني في غزة لا يمكن تبريرها بأي معيار”، “وان الصهاينة يرتكبون جرائم ضد الأبرياء في غزة بأكثر الطرق وحشية، وإذا أراد اهل غزة الدفاع عن أنفسهم، يجري اتهامهم من قبل حماة الكيان الصهيوني بالإرهاب.. ولو تعاون المسلمون ودول المنطقة، بإمكانهم تقويض هيمنة العالم الغربي”.

ولاشك ان ايران والعراق، يشكلان اليوم-سياسيا وشعبيا-حجر الزاوية في مواجهة مخططات ومشاريع الهيمنة الاميركية والصهيونية على المنطقة، وكلما ارتفعت واتسعت ميادين التعاون والتنسيق بينهما، كلما بات الوصول الى الاهداف المرجوة اسرع وأسهل.

بأختصار، تبدو الارضيات والظروف والمناخات مهيأة في هذه المرحلة، اكثر من اي وقت مضى، لاحداث نقلات نوعية مهمة في مسيرة العلاقات العراقية-الايرانية، والعمل على تحويل التحديات القائمة الى فرص واعدة. ومجيء الرئيس بزشكيان للعراق قبل سفره المقرر الى نيويورك، مثل الخطوة الاولى في هذا الطريق، وما افضت اليه الزيارة من نتائج ومعطيات ومخرجات، يؤشر الى صدق وجدية النوايا والارادات والرغبات.

—————————

*كاتب وصحافي عراقي