في ثمانينات القرن الماضي دقّت طبول الحرب بين العراق وإيران، إندلعت في شهر سبتمبر 1980 أي بعد أقل من عامين لتولي صدام حسين منصبه لرئاسة الجمهورية والذي يقال أن مؤامرة جعلت سلفه أحمد حسن البكر يتنحى لخلفه.
في سنوات الحرب الثمان كانت مشاهد طوابير السيارات التي تحمل توابيت ملفوفة بالعلم العراقي أمراً مألوفاً في شوارع ومحافظات العراق، أما مشاهد الخوف والرعب فكان يمكن أن تراها بوضوح على وجوه العراقيين عندما يطرق أبواب منازلهم رجل يرتدي الزي الزيتوني لإستدعاء أحد أفراد العائلة لتأدية واجب الجيش الشعبي آنذاك.
كانت دقات القلوب تتسارع وتتسابق مع ملامح الوجوه المرتعبة وهي تتسمّر أمام شاشات التلفاز لتسمع بيانات القيادة العامة للقوات المسلحة وهي تعلن أفواج الصاعدين إلى السماء.
كان الموت ولازال حديثاً للعراقيين، يعيش معهم في كل شيء حيث تراهم يذكروه في كلامهم مثل الحبيب الذي يغازل حبيبته بالقول “آني أموت عليج” وذلك الجائع الذي يقول “ميّت من الجوع” أو حديث الصيف اللاهب في العراق المعتاد “آني ميّت من الحر”.
خسر العراق في حرب البوابة الشرقية مع إيران أكثر من مليون شاب وأضعاف هذا الرقم من الجرحى والمعوقين وخسارة مليارات الدولارات على سلاح الحرب، والأهم تدمير شخصية الفرد العراقي وهو يشاهد في التلفاز صور من المعركة لجثث متفحمة ومتناثرة لجنود تقطّعت أوصالهم، وصور مفزعة للموت وكل الخوف والخشية أن يطرق الباب من يخبرهم إن من بين القتلى إبن أو أخ أو والد في العائلة، إلى درجة إن مستوى الخوف إرتفع عند العراقيين، أنهم باتوا يخافون القادم من الأيام.
إنتهت حرب العراق وإيران بسنواتها الثمان العِجاف في 8 أغسطس 1988، حينها فرح العراقيين ببصيص الأمل في الحياة ووقف إطلاق النار فقام الشعب برمي الماء على بعضهم في شوارع بغداد إبتهاجاً بالمناسبة التي إستمرت إحتفالاتها لأيام.
لم تكد تمر عدة شهور من إستراحة العقول حتى تفاجئ الشعب بإعلان صدام دخول قواته إلى الكويت في فجر الثاني من أغسطس 1990 في فجر يوم حزين ليتم إستدعاء الإحتياط ومن تنفس حرية التسريح من الجيش ولو لأشهر قليلة.
كانت حرباً عبثية إستمرت لأسابيع طويلة صنعت من العراقيين حطباً لعبثية حاكم أراد أن يدخل التاريخ ليجعل من دولة عربية محافظة رقم 19 تضاف إلى محافظات العراق الـ 18.
هنا لم تسكت الولايات المتحدة التي دافعت عن مصالحها وأصدقائها فجيّشت الجيوش وهيأت طائرات الشبح ودباباتها المتطورة، فكانت مناسبة لسحق الجيش العراقي وتدميره وإلحاق أكبر هزيمة بقواته في عملية سُميّت “عاصفة الصحراء”.
أصبح طريق العودة من الكويت إلى البصرة مقبرة للجنود العراقيين وأسلحتهم، تبعها فرض حصار إقتصادي على العراقيين دفعوا أثمانه غالياً من أقواتهم وأرواحهم حين كانت قوافل الموت تسير بتوابيت أطفال الخُدّج في شوارع بغداد تصعد إلى السماء تشكو إلى بارئها ظلم العباد، كانت السلطة تتعذّر بإنعدام الكهرباء في المستشفيات.
سنوات الحصار القاسية أنتجت جوع وفقر، حين كان الشعب يأن من الحرمان ونفط يخرج من العراق بعنوان “النفط مقابل الغذاء” الذي فرضته أمريكا على الشعب العراقي حصراً وليس على نظامه المتنعّم بالخيرات.
إستمر الحصار والجوع والموت حتى عام 2003 حين دخلت القوات الأمريكية بغداد “محتلة” وأعلن جورج بوش الإبن عن إنهاء العمليات العسكرية في العراق من إحدى البارجات الحربية بالقول” إفتحوا الأبواب والشبابيك، لقد حان موعد الديمقراطية”.
فرح العراقيون وإبتهجوا بهذا النصر المزعوم حتى شاع بينهم إن الأمريكان سيقومون بتوزيع الدولارات على الشعب الجائع إضافة إلى أكثر من 40 مادة غذائية تعجز الأيادي عن حملها أو التصرف بها، ظن العراقيون إن خلاصهم من نظام ديكتاتوري سيُعيد للحياة بهجتها وسترحل معه عسكرة المجتمع، لكن الحرب التي كانت على الحدود إنتقلت إلى داخل المدن وإستقرت في داخل منازل العراقيين حين واجه المواطن البسيط حروب المفخخات والإرهاب والأجساد المستعدة أن تتناثر من أجل أن تقتل أكبر عدد من البسطاء والباعة في أي شارع أو سوق.
خسر العراقيون منذ دخول الأمريكان بغداد عام 2003 ما يعادل خسائرهم في الحرب العراقية – الإيرانية، وعلى ما يبدو هي ضريبة الحياة على هذه الأرض المتعطشة لدمائهم.
العراقيون ومنذ عشرات السنين لازالوا يدفعون أثمان حروب لم يختاروها أو يشعلوها وكل ذنبهم أنهم عراقيين، مشاريع حاضرة أو مؤجلة لحروب لا ناقة لهم ولا جمل.