25 نوفمبر، 2024 10:56 ص
Search
Close this search box.

أن”لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ

أن”لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ

“ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون”
المجتمعات المتطورة دائما تأخذ بالحقائق المهمة وإن كانت بسيطة، بينما تغفلها المجتمعات المتخلفة وإن كانت مهمة، منها وعلى سبيل المثال لاالحصر:” التقيد بأنظمة المرور كتحديد سرعة سير المركبات على الطرقات،واوامر ونواهي وزارة الصحة فيما يتعلق بالصحة العامة والخاصة، وبقية النواهي والنصائح والارشادات التي تصدرها هيئات الدفاع المدني المتعلقة بالسلامة، وكذلك كل ما يصدر من نواهي وتعليمات من بقية الوزارات والمؤسسات الحكومية والأمنية والانسانية المتعلقة بالسلامة والإنتاج والبيئة…الخ”

وهذي النواهي هي عبارة عن حيطة وحذر ووقاية من خطر ما وحادثة ما أو كارثة ما ربما قد تودي بحياة الآخرين وممتلكاتهم وقد تحصل مع اهمال الفرد أو من خلال خطأه، وهذا يعني إن القانون الوضعي في فلسفته انه يريد الحفاظ على سلامة المجتمع أولا وسلامة الفرد ثانيا مما قد يسببه خطأ الفرد أو المجموعة ذاتهما بانتهاك تلك التعليمات والنواهي وعدم التقيد بها.

وهنا تأخذ العقوبات الرادعة دورها الاصلاحي لمن يخالف تلك النواهي المترجمة ربما إلى قوانين، وقد تكون العقوبة جماعية في بعض الأحيان من أجل صلاح وسلامة المجتمع.

فكل الديانات السماوية والوضعية ومنها الإسلام تطالب بتطبيق القوانين المتعلقة بالسلامة العامة والأمن واقامة الحدود، وبشعارات مختلفة في الاداء ولكنها متشابهة بالمضمون، والتي تحث على تكريس الأمن والسلام في المجتمع الذي يرفل في ظل حكومة إسلامية أو حتى في ظل سلطة مدنية عادلة، بغض النظر عن أديان وأثنيات أفراد ذلك المجتمع وتوجهاتهم السياسية والفكرية والولائية.

وقد اولى الإسلام أهمية كبرى لحالتي الأمن والسلام، وماأكثر ذكرها وتكرارها في آيات الذكر الحكيم والسنة النبوية الشريفة، لدرجة أن الله سبحانه وتعالى قد سمى نفسه “بالسلام”وجعله من اسمائه الحسنى، وهو القائل جل وعلا من كتابه العزيز:”هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ”.

والسلام يعني في واحدة من تأويلاته هو أمن الفرد المواطن وممتلكاته وأمن المجتمع الذي يعيش فيه ضمن رقعة جغرافية محلية ووطنية واقليمية، ولايقتصر على السلامة فقط ودفع الخوف كأمن اجتماعي فحسب بل يتعدى ذلك إلى معاني كثيرة وغايات كان من أهمها الأمن الغذائي والاقتصادي والصحي والمعلوماتي والفكري والثقافي والعقائدي.

إن مصدر التشريع هو الله سبحانه وتعالى، وقد الزم نفسه سبحانه وتعالى وأنبيائه ورسله صلوات الله عليهم اجمعين أن “لااكراه في الدين” وفي الاعتقاد كما أورد ذلك في آية الكرسي المباركة من سورة البقرة وجعلها أعظم آية في القرآن الكريم، والتي جاء فيها:”لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا” وهذا ضرب من ضروب الديموقراطية في مصطلح اليوم، ليصبح الإنسان وفق هذا المفهوم أنه مخير وغير مسير، وهذا يضادد نظريات ” الجبر” التي جاءت بها بعض الفرق المتأسلمة ليتهموا الله ورسله بشرور سياساتهم الأموية المنحرفة.
وقد أكد المشرع على ان هذا المبدأ -أي مبدأ لاكراه في الدين- لايتحقق إلا بتوخي حالتي الأمن والسلام كضمان لتحقيقه وبدونهما لن يتحقق أبدا، وأن ينعم جميع الناس وبجميع طوائفهم بنعمتي الأمن والسلام وعلى اختلاف أديانهم ومعتقداتهم ومذاهبهم كما اسلفنا، وهذي اشارات قرآنية وضعها المشرع ليعلم الناس أن هاتين النعمتين هما جعل تكويني وهبهما الله لمخلوقاته كحق من أجل ديمومة الحياة شأنهما شأن الماء والغذاء والهواء، وقد اولى القرآن اهتماما كبيرا لهذه المسألة إذ أقرنهما بذكر الخطاب مع مصطلح الناس دون حضر توجيه الخطاب إلى فئة أخرى من المؤمنين أو المسلمين، ليثبت ويدل على ان الأمن والسلام للجميع فلا تستأثر به فئة دون أخرى.

هذه المبادئ والقيم قلنا لاتحقق إلا بالمجتمعات المتحضرة وفي ظل حكومة إسلامية متبعة لنهج آل بيت الرسول الأكرم (ص) أو حكومة مدنية ديموقراطية مؤسساتية تؤمن بالقيم السماوية والانسانية، وفيما عدا ذلك فإن تلك المبادئ تتحول إلى مجرد شعارات تتاجر بها الأنظمة الديكتاتورية والشمولية والانظمة الوراثية المستبدة الفاسدة والمتغطرسة، والحالة هذه واحدة من استحقاقات المرحلة التي يجب أن تحقق حالة الاصلاح من أجل انقاذ الأمة التي تعرضت مجتمعاتها للفساد بسبب تسلط الحكومات المنحرفة على رقابها، وهو الحال نفسه الذي عانت منه أمة محمد(ص) في فترة الحكم الأموي الغاشم، ورضت لنفسها بقبول حالة الذل والخنوع، والتي بلغت اوجها في زمن حكم الطاغية يزيد(لعنة الله عليه) من خلال الإمضاء على التعهدات التي أملاها عليهم من قبل نظام حكمه على أنهم عبيد خوليون ليزيد يتصرف بهم وباموالهم وأعراضهم كيف مايشاء، مما حدى بالامام الحسين (ع) بالقيام بالنهضة والتضحية بنفسه وأهل بيته وعياله وماله من أجل إصلاح هذه الأمه على مدى التاريخ، وكشف نوايا النظام المتغطرس وفضح أكذوبته ومن تبعه عبر الأجيال عند لبس عباءة الدين والمتاجرة بشعارات الإسلام كذبا وزورا وتدليسا.

قد يخطأ البعض منا عند قراءته لنهضة الحسين (ع) على انها ثورة فحسب، وهي ليست كذلك، ذلك لأن الثورة لها مقاصد وأهداف محدودة وضيقة، ومختلفة عن مضامين وأهداف النهضة لأنها لاترقى وإن أتسعت رفعتها إلى ابعاد النهضة، فتبقى الثورة محدودة بأبعادها واهدافها الدنيوية والسياسية، أما نهضة ابي عبد الله الحسين(ع) فهي واسعة في مضامينها وابعادها وأهدافها لايحدها حد مكاني ولا زماني، ولا تقتصر على أمة أو دين، فهي شاملة وعامة لكل الناس والأزمان، ومتجددة تجدد الانسانية والحضارات، لذلك أطلق الشعار الذي يتناسب مع هذه النهضة:”كل يوم عاشوراء، وكل أرض كربلاء”.

واريد في هذه المرة أن أسمح لنفسي وأتجاوز قدري لأعرج ولو بشيء يسير لايرقى إلى عشر معشار من وصف أهداف هذه النهضة الخالدة، فأقول: إنه أراد (ع) أن يسقط شرعية النظام الاموي الفاسد المتمثل بيزيد الماجن لعنة الله عليه، الذي تبوأ منصة الحكم بالتوريث رغما على أنوف المسلمين، وخروج الحسين (ع) صوب العراق كان بشعار إصلاح هذه الأمة والأمر فيها بالمعروف والنهي عن المنكر، الأمة التي قبلت الذل والخنوع، وهو القائل عند خروجه (ع):”اني لم اخرج اشرا ولابطرا إنما خرجت للاصلاح في أمة حدي”، والاصلاح لايعني في فلسفة الامام الحسين (ع) هو إصلاح نظام الحكم، لأنه على بينة أن النظام لايمكن اصلاحه وميؤوس منه تماما لكن الاصلاح الذي ضحى الامام من أجله بنفسه الكريمة هو إصلاح الأمة حصرا التي تسرب لها الفساد بوجود هذه الطغمة الفاسدة، لأن الناس “على دين ملوكها”، فقد كانت الأمة في ذاك الآن على شفا حفرة من الانهيار والنكوص والأرتداد عن الدين والعدول لتقليد جهابذة الدين الأموي تحت عباءة الإسلام لطلب العافية، مصداق قوله (ع) “النّاس عبيد الدّنيا والدّين لعق على ألسنتهم يحوطونه مادرّت معايشهم, فإذا مُحّصوا بالبلاء قل الدّيانون”.

وكان من أهداف نهضة الحسين(ع)اضافة لإستنهاض الأمة واصلاحها واسقاط شرعية النظام الأموي الفاسد، احياء الرسالة الاسلامية المحمدية السمحاء لتكن الرسالة الاسلامية المحمدية-الحسينية هي المتصدي الأول والأخير للتداعي والانحراف الذي يواجه الأمة عبر العصور والأجيال في زمن الطواغيت، فكانت نهضة الامام الحسين (ع) رسالة سنخية لرسالة النبي الأعظم محمد رسول الله (ص) ونظام شامل لجميع مفاصل الحياة التي اصابها الخمول والترهل والانحسار.

كما أن الأمن الوطني والسلم الأهلي كان من أولويات هذه النهضة المباركة، حيث بفقدان هذين العاملين تقوى وتتمكن ركائز النظام الشمولي في الأمصار والمجتمعات، ويعم الظلم والفساد والإرهاب بجميع انواعه، ناهيك عن غياب القانون والنظام وانحساره في المجتمع، مقابل سيادة الأهواء والأعراف التي يكون مصدر تشريعها نظام الحكم القائم آنذاك وفي هذا الآن.

وكان من أهداف نهضة الحسين (ع) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو القائل عند إعلان نهضته الشريفة: “أريد أن آمر بالمعروف وانهى عن المنكر”، وهذا المبدأ إنما رفع بعد وقوع الانحراف والفساد في واقع الأمة، بدليل قوله (ع): “…ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن واظهروا الفساد في الأرض وعطلوا الحدود وإستأثروا بالفيء وأحلوا حرام الله وأحلوا حلاله”.

وكان عليه السلام حريصا على أن لايأخذ أهل بيته واصحابه بالاكراه في القتال، فلما أغطشت ليلة عاشواء قال لاصحابه وأهل بيته:”هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا ، ثم ليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، ثم تفرقوا في سوادكم ومدائنكم حتى يفرج الله، فإن القوم إنما يطلبوني ولو قد أصابوني”.

فكانت نهضة الامام الحسين(ع) قد اندفعت باتجاهات متعددة، فهي ليست كالثورة التي تنحصر بهدف واحد أو هدفين، بل هي شاملة ومطلقة لتطل على كل شيء، وتستشرف في أهدافها على مناحي حياتية وأخروية كثيرة ومتعددة ومفصلية.

والنهضة الحسينية قد الزمتنا أن نكون في مستوى المسؤولية الفردية والمجتمعية بشكل شرعي وأخلاقي من حيث يتحتم علينا وفي حال تزاحم الأولويات تحريك مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشكل فعلي لتصب في عملية الانتظار والتمهيد لظهور الامام صاحب العصر والزمان عليه السلام وعجل الله فرجه الكريم ويسر مخرجه الشريف.

أحدث المقالات

أحدث المقالات