قرأتُ قبل أيام مقالاً بعنوان “عبد الكريم قاسم في ميزان التاريخ” للكاتب أحمد العبد الله (1) ، فاندهشت مما أثبته هذا الكاتب كما سيأتي بيانه. لكني اطلعت اليوم وبالمصادفة على مقال يحملالعنوان نفسه! مع التطابق التام! ولكن بقلم الكاتب أحمد الموسى فرج (2)!! والسؤال القهري الآن: هل الكاتب واحد؟ أم اثنين وسطا أحدهما على الاخر؟ هذا ما لا نستطع البت فيه الآن لعدم امتلاكنا الأدلة.
ما يهمنا الان هو المحتوى ، أي محتوى المقال وقيمته التاريخية ، مع التأكيد على أننا سنتعامل مع الكاتب ـ الكاتبين ـ وكأنه ـ كأنهما ـ شخص واحد.
يًصَدّر الكاتب مقاله بالآتي:
(الفريق الركن عبد الكريم قاسم 1914 ـ 1963 هو أسوأ من توَلّى حكم العراق بين 1921 ـ 2003) ثم يقارنه بالطبقة السياسية الحاكمة بعد سقوط نظام صدام حسين ، ليقول بأن الفارق كبير بينه وبينهم ، ليُقدّم قاسم عليهم بعد أن نعتهم بوصف قاسٍ (3).
وُلدَ الكاتب في بداية ستينيات القرن الماضي ، وهذا واضح من قوله (أنا لم أعش زمن قاسم ، فقد جئت للدنيا ففي أواخر عهده). أي أن الكاتب الآن قد جاوز الستين من العمر.
سنوجز الآن ما أثبته:
1ـ أكبر خطايا قاسم هو الانقلاب على الحكم الدستوري الشرعي وحنثه باليمين وهو من الكبائر ، وفتحه باب الفوضى. فالحكم الملكي فيه ما فيه ، لكنه أفضل من كل العهود الجمهورية.
2ـ ليس قاسم ذلك الشخص الأسطورة والداهية الذي لا يتكرر كما حاول البعض تصويره لنا ، ومعظم مريديه من البسطاء والسُذج الذين تخيلوا صورته على وجه القمر. ومن أخطائه الكارثية انشاء ضاحية الثورة شرق بغداد لأهل الصرائف بدلاً من اعادتهم الى المناطق التي نزحوا منها ، فخربوا هوية بغداد الحضارية والمدنية.
3ـ قاسم أول من أدخل عبادة الفرد من حكام العراق الحديث فملأت صوره وتماثيله مدن العراق ، والذين يعيبون على صدام حسين هذه الأشياء يتعامون عن حقيقة صارخة ، فالسبق لقاسم في هذه الأشياء.
4ـ قاسم الأب الروحي للميليشيات ، فهو مؤسس المقاومة الشعبية.
ليختم الكاتب مقاله بأن ما قاله لا يصدر عن تحامل ، بل بموضوعية يزعمها لنفسه ، وقاسم برأيه عسكري محترف وشخص نزيه عفيف اللسان مخلص لبلده ، ولكنه سياسي فاشل.
الخلل الأول في مقال الكاتب هو خلوه من الاستشهاد بأي مصدر تاريخي ، باستثناء مرة واحد أشار فيها لكتاب الأستاذ ليث الزبيدي عن ثورة تموز ولكن بدون توثيق! إذ لا وجود لأرقام الصفحات! ونتساءل الآن عن القيمة التاريخية لما طرحه الكاتب في مقاله؟!
يُكرر الكاتب الديباجة المعهودة عن شرعية عمل الضباط في تموز 1958 وفتح باب الفوضى … الخ ، وهو خلل كبير وقع به الكاتب وغيره ، مع استمرار الوقوع به الى اللحظة الحالية! وقد عالجنا هذه المسألة باسهاب في كتاب صدر لنا في الفترة الأخيرة ، فبدلاً من التباكي على “عهد جميل” مضى ، يجب أن نسأل ونبحث عن أسباب سقوط هذا النظام. لماذا سقط النظام الملكي؟ هل من المعقول أن يسقط مع عدم وجود أسباب موجبة لهذا السقوط؟! وهل من الممكن ذلك! وما على القارىء الكريم إلا الرجوع لكتابنا الذي عالجنا به عوامل سقوط هذا النظام والتي ساقته الى نهايته المحتومة (4).
يقول العقيد المتقاعد صبيح علي غالب:
نعم ، كان في العهد الملكي قيم يستند عليها الحكم ، وكان ظاهره مستقراً ، ولكن هذا لا يعني أن أسباب الثورة لم تكن موجودة ، فلو لم تكن هذه الأسباب لما حدثت الثورة (5).
هل سمع الكاتب بمقولة عجيبة للباشا نوري السعيد؟ يقول الدكتور حيدر عطية كاظم:
عبّر رئيس الوزراء نوري السعيد عن حقيقة موقفه من الفقر والفقراء في العراق ومن على رؤوس الاشهاد ، وذلك عندما خاطب أعضاء مجلس النواب بهذه الكلمات الواضحات ، وكأنه يتكلم عن نظام الطبقات الاجتماعية في الهند ، إذ قال:
الولد الذي يُولد من أب فقير فيبقى فقيراً ، والآخر يُولد من أب غني ويبقى غنياً ، ولا افتكر باستطاعة هذا النظام الاجتماعي الحاضر ان يُغير تغيراً جوهرياً ، وهكذا تجري الأمور (6). وعليه فما قيمة الحنث باليمين ـ والذي يُكرر دائماً ـ أمام هذا المعيار السعيدي البائس! فالحنث باليمين من الكبائر ، لكن بقاء الفقير على فقره شيء هيّن جداً عند كاتبنا!!
وهذا ما سيقودنا الى موقف الكاتب من اهل الصرائف وإسكانهمفي بغداد و “تخريبهم” هويتها الحضارية والمدنية كما ادعى!
من حقنا ان نتساءل عن الأصل الطبقي للكاتب؟ فمن خلال قراءة ما بين السطور سيتبين ذلك! نعم فالكاتب على الضد من الطبقات الكادحة ، ينظر اليها باستعلاء ، فهي من خرّبت العاصمة بغداد!!
لنرى الآن ، هل فعلاً خرّب هؤلاء بغداد كما ادعى الكاتب؟ ام هناك وجه آخر في المسالة؟
يقول الدكتور حيدر عطية كاظم:
لقد استطاع عبد الكريم قاسم بذلك ان يفتح ابواباً كانت موصدةأمام فئة كبيرة من البغداديين ليصبحوا جزءاً من بغداد ، وان يسمح للامال ان ترى النور والأحلام ان تتحقق ، فكان ذلك البداية لتغيير اجتماعي واقتصادي وفكري أيضاً في حياة أولئك الناس ، وكان من نتائج ذلك التغيير الكبير كاتب هذه الرسالة والمشرف وعشرات الألوف من الأطباء والمهندسين والأساتذة والكُتاب والشعراء والفنانين المُبرّزين (7).
فهل خرّب الدكتور حيدر عطية كاظم والمُشرف على رسالته في الجامعة وغيرهم من الأطباء والمهندسين والشعراء … العاصمة بغداد!!
ونحن بدورنا نعتقد بأن وصف انصار قاسم بالسذج البسطاء سيُعلي من شأن قاسم ويُشرفه ، ولعمري فهي منقبة عظيمة له.
وبشأن النقطة الثالثة ، فنحن لا نريد الدفاع عن قاسم بقدر ما نريد ان نتعامل بموضوعية معه. نعم كان قاسم يحكم بصورة فردية ، دكتاتوراً ، أي حصر السلطات بيده … الخ ، ولكن أين هذا من صدام حسين!! وهل كان صدام مثل قاسم من حيث انعدام الروح الانتقامية والوزن الكبير عنده للحياة البشرية! (8) ،صراحة لا مجال للمقارنة ابداً ، ولولا ادعاء الكاتب لما اضطررنا لهذه المقارنة.
أما عن النقطة الأخيرة ، ففيه من التجنّي و “الخبث” (9) الشيء الكثير. فهل سأل الكاتب نفسه عن غرض تشكيل هذه المقاومة؟ حيثياتها؟ وهل أبقاها قاسم تصول وتجول بعيداً عن سلطة الدولة؟
جاء تشكيل المقاومة الشعبية نتيجة وجود تهديد فعلي ملموس تمثّل بالأخطار الخارجية لا سيما التهديدات الأمريكية والبريطانية التي أحاطت بالعراق بعد انتصار ثورة 14 تموز. ولم تكن حكومة قاسم بدعاً هنا ، فقد اتبعت عدة تجارب سابقة حدثت في: الصين والاتحاد السوفيتي والجمهورية العربية المتحدة. وقد قام قاسم بحلها في 29 تموز 1959 (10).
لم يكن قاسم سياسياً ورجل دولة ، مقولة نسمعها دائماً ، ولا نختلف معها من حيث المبدأ ، ولكن الاطلاق فيها عسير. نعم لم يكن سياسياً ، فالرجل عسكري ، ولكن للأستاذ مير بصري رأي مهم ، فقاسم برأيه رجل فذ كان يحمل بذور رجل الدولة في مقدرته وإخلاصه ، ولو طال به الزمان واستتب له الأمر لبرزت مزاياه الكامنة واصبح رجل دولة لا سياسيا مغامرا شأن مناوئيهوخلفائه (11).
الحواشي:
1ـ أحمد العبد الله: عبد الكريم قاسم في ميزان التاريخ ،الكاردينيا “مجلة ثقافية عامة” بتاريخ 18 تموز 2024
2ـ أحمد الموسى فرج: عبد الكريم قاسم في ميزان التاريخ ، موقع كتابات بتاريخ 9 فبراير 2022
3ـ الحثالات
4ـ معاذ محمد رمضان: النظام الملكي العراقي وإشكالية البقاء ـ هل كان من الممكن لهذا النظام ان يبقى على قيد الحياة؟ دار البيارق للنشر والتوزيع بغداد 2024
5ـ صبيح علي غالب: قصة ثورة 14 تموز والضباط الأحرار ، دار الطليعة للطباعة والنشر بيروت ط1 1968 ص104
6ـ حيدر عطية كاظم: الفقراء في العراق والموقف الرسمي والشعبي منهم 1921 ـ 1945 دراسة تاريخية ج1 ، وزارة الثقافة ، دار الشؤون الثقافية العامة بغداد 2023 ص63 و 64
7ـ حيدر عطية كاظم: الصرائف في بغداد 1932 ـ 1963 دراسة في التاريخ الاجتماعي ، وزارة الثقافة ، دار الشؤون الثقافية العامة بغداد ط1 2018 ص267
8ـ أوريل دان: العراق في عهد قاسم ، ترجمة وتعليق: جرجيس فتح الله ، دار آراس للطباعة والنشر أربيل و دار الجمل بيروت بغداد ط1 2012 ص337
9ـ نعتذر من القارىء على هذه الشدة وهذا الوصف ، ولكن لا بد منها احياناً
10ـ يُنظر البحث المنشور على الانترنت:
فرات عبد الحسن كاظم الحجاج و بشائر محمود مطرود المنصوري: تشكيل قوات المقاومة الشعبية في العراق 1958 ـ 1959 ص190 و 191 و 192
11ـ مير بصري: أعلام السياسة في العراق الحديث ج1 ، دار الحكمة لندن ط1 2005 ص298 و 309