18 ديسمبر، 2024 10:53 م

الدفاع المدني في العراق .. تضحيات وتحديات

الدفاع المدني في العراق .. تضحيات وتحديات

في ظروف مثل ظروف بلدنا ، التي تكثر فيها الحوادث والحرائق من مختلف الأنواع والأشكال والمصادر وبعدد ومعدلات تفوق ما هو موجود في اغلب البلدان ، تسود اعتقادات خاطئة لدى شرائح واسعة من الجمهور بأن أجهزة الدفاع المدني من واجباتها الأساسية هي الإطفاء لا غير ، وفي حقيقة الأمر إن للدفاع المدني مهام كبيرة كونه الجهة الوحيدة المسؤولة عن التصدي لما يحصل من حوادث أينما تكون في العراق ، وهذا الجهاز ( الذي هو عبارة عن تشكيل بمستوى مديرية عامة يرتبط بوزارة الداخلية ) لم يدخر جهدا في تنفيذ واجباته الواسعة دون تذمر او أعذار رغم إن مهماته تزداد صعوبة وتعقيدا يوما بعد يوما ، فمعدل عدد الحرائق والحوادث التي يعالجها لا تقل عن الألف في كل شهر ، وهناك الكثير من التعقيدات التي تواجه إطفاء الحرائق وأبرزها نوع وحجم الحرائق التي تأخذ أشكالا مختلفة كونها لمواد صلبة او غازية او سائلة بدرجات اشتعال متباينة وظروف تخزين وعرض تتسم بالتعقيد او الإخفاء في الكثير من الحالات ، ورغم إن من المعروف علميا إن اغلب الحرائق ربما تحتاج لدقائق محدودة جدا لتسهيل إطفائها ومنع انتشارها وتقليل إضرارها بالأرواح والممتلكات ، إلا إن واقع الحال يؤشر صعوبة الوصول للحرائق رغم تعدد وانتشار مراكز الإطفاء بسبب الازدحامات وخلو الشوارع من وجود ممرات للطوارئ والأزمات ، ناهيك عن التوسع السكاني الرسمي او بالتجاوز او العشوائيات واستخدام شبكات عنكبوتيه لمد خطوط الكهرباء للوطنية والمولدات ، ويضاف لكل ذلك ضعف الإسهام الجمعي في معالجة معظم الحالات التي من الممكن تفاديها وقائيا او القيام بنشاط يسبق وصول فرق الإطفاء ، فقل ما نجد مطفأة حريق في البيوت والمحلات او فرق دفاع مدني فاعلة من داخل التشكيلات ، وبغض النظر عن تلك الصعوبات والإمكانيات ( المحدودة ) فقد استطاع الدفاع المدني أن يرسم صور جميلة في ذاكرة العراقيين عن تضحياتهم وجهودهم في التصدي لمختلف الحوادث والمخاطر ، فهناك مئات الذكريات عن ( العبارة ، القطارة ، مستشفى ابن الخطيب ، حملات الحصاد ، المطعم العائم ، حوادث الإرهاب ، معارك التحرير) والأمثلة تطول ورجالهم اليوم يدخلون بإنذار ( ج ) لمدة ثلاثة أشهر لمواكبة ما قد يطرأ بسبب ارتفاع درجات الحرارة وما يصيب المحولات والمولدات بأعطال او ما يتعرض له الأفراد و المنشآت من أخطار .
ان قانون الدفاع المدني العراقي رقم (44) لسنة 2013 الذي لايزال نافذا في البلاد يعد حالة متقدمة على العديد من تشريعات البلدان ، فهو يعرف الدفاع المدني بأنه ( جميع الإجراءات والتدابير التي تتخذها الأجهزة الرسمية والشعبية عدا القوات المسلحة لغرض تأمين الحماية للسكان والممتلكات العامة والخاصة وتقليل الخسائر إلى أدنى حد ممكن وإدامة العمل والإنتاج في ظروف السلم والحرب والكوارث المختلفة ) ، والمادة ( 2 ) من هذا القانون أوضحت بان واجبات الدفاع المدني ليست حصرية بالمديرية العامة وإنما تشاركها أجهزة الدولة الأخرى التي تتولى تنفيذ إجراءات الدفاع المدني ، وقد ألزم هذا القانون تشكيل غرفة العمليات الرئيسة ويكون مقرها في مديرية الدفاع المدني ويرأسها وزير الداخلية وتضم 23 عضوا يمثلون أجهزة وقطاعات الدولة ذات العلاقة بالموضوع ، وحددت المادة ( 3 ) أعمال الدفاع المدني لتشمل ( أولا : تأمين وتنظيم وسائل الإنذار المبكر وتنبيه المواطنين إلى المخاطر المحتمل وقوعها ، ثانياً : تدريب وتوعية المواطنين للحماية من إضرار الحرب والكوارث ، ثالثاً : إعداد وتهيئة فرق الدفاع المدني والإشراف على توفير مستلزماتها ، رابعاً : تحديد المنشات اللازمة للدفاع المدني ومتابعة إقامتها وإدامتها ، خامساً : إعداد وتنفيذ التدابير الوقائية لتأمين الحماية للسكان والمنشآت الحيوية أثناء الحرب والكوارث ، سادساًـ : إعداد خطط إخلاء المدن من السكان وتنفيذها بالتنسيق مع الجهات ذات العلاقة ، سابعاً : إعداد الخطط اللازمة للسيطرة على توزيع الطاقة الكهربائية في الحالات الطارئة ، ثامناً : إعداد وتهيئة الخطط المعتمدة لمواجهة حالات الطوارئ وتأمين مستلزماتها وتنفيذ الممارسات اللازمة لفحص كفاءتها ، تاسعاً : إعداد وتنفيذ الخطط لتهيئة المستشفيات والمراكز الصحية لغرض معالجة المواطنين عند حدوث الكوارث المحتملة ، عاشرا : كشف القنابل غير المنفلقة ومعالجتها بالتنسيق مع الجهات ذات العلاقة ، حادي عشر : إعداد وتنفيذ الخطط لإغاثة المنكوبين ، ثاني عشر : مكافحة الحرائق والإنقاذ الخفيف والثقيل ، ثالث عشر : إجراء الكشوفات على المنشات والمشاريع والمصانع ومتابعة تنفيذ شروط الوقاية والسلامة فيها لأغراض الدفاع المدني ، رابع عشر : تطهير المناطق من عوامل التلوث المختلفة بالتنسيق مع الجهات ذات العلاقة ) ، وتؤكد تلك النصوص بان الحرائق التي وردت في التسلسل ( ثاني عشر ) هو واحدا من أعمال الدفاع المدني وليس كما يتصوره البعض .
ولان بلدنا يتميز بكبر مساحته وتوزعه بعدة محافظات وبعدد سكانه المعروف وتتنوع نشاطاته في المجالات كافة يفترض أن تتآزر جهود الجميع من اجل منع ودرأ الأخطار وليس معالجة نتائجها فحسب ، فالمقولة ( الوقاية خير من العلاج ) يفترض أن تجعل مهام الدفاع المدني للجميع ولا تنحصر بمديرية عامة فحسب ، وقد نص قانون الدفاع المدني في مواده 25 – 30 مهام الجهات العاملة في الدولة في مجال الدفاع المدني ومنها ( يتولى وزير الدفاع ممارسة مهام الرئيس الأعلى للدفاع المدني في المناطق العسكرية ، تخصص الوزارات والجهات غير المرتبطة بوزارة اعتماداً في ميزانيتها بعنوان الدفاع المدني بما يؤمن تنفيذ الأعمال والمشاريع الخاصة بالدفاع المدني ، قيام الوزارات والجهات غير المرتبطة بوزارة استحصال الموافقة عند منح رخص إنشاء او فتح أي نشاط تجاري او صناعي وبضمنها مواقع خزن ونقل وتداول وبيع وتجهيز المواد الخطرة لتامين التدابير الوقائية ومستلزمات الدفاع المدني والسلامة الصناعية فيها ، تامين المستلزمات من أفراد وعجلات وأجهزة ومعدات وغيرها لتنفيذ أعمال الدفاع المدني ، طلب الاستشارة الفنية من مديرية الدفاع المدني العامة قبل أن تقوم بشراء العجلات والمستلزمات المتعلقة بأعمال الدفاع المدني ، تطوير إمكانية الدوائر البحثية ذات العلاقة بالتنبؤ بوقوع الكوارث في تلك الوزارات ، استحداث تشكيل للدفاع المدني والسلامة الصناعية في الوزارات والجهات غير المرتبطة بوزارة يرتبط بالوزير او رئيس الجهة غير المرتبطة بوزارة باعتباره رئيساً للدفاع المدني في دائرته لتأمين وإدامة متطلبات الدفاع المدني والسلامة والتواصل مع دوائر الدفاع المدني ، تلتزم إدارات المنشات والمشاريع الحيوية بإنشاء مراكز او مفارز لاطفاء الحرائق مجهزة بعجلات ومعدات الإطفاء والإنقاذ وفقاً للمواصفات التي تحددها مديرية الدفاع المدني العامة ، تلتزم الدوائر والمنشآت في مختلف القطاعات بواجب خفارات الدفاع المدني وفقاً للتعليمات التي تصدرها مديرية الدفاع المدني العامة ) .
وحين نذكر جزءا من النصوص الواردة في قانون الدفاع المدني فان الهدف هو التذكير بان هناك مهام وواجبات للدفاع المدني أوكلت لغير المديرية العامة ذات الاختصاص ، ولكن واقع الحال في الكثير من الاحيان يؤشر إن أجهزة الدفاع المدني تتحمل اعباءا كبيرة من عدم او ضعف الالتزام بتلك الواجبات ، فالتقارير التي يعدها الخبراء بعد وقوع الحوادث تؤشر خللا في اتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع وقوع الحوادث ومنها وجود تجاوزات في الإنشاء والإضافة وعدم الانصياع لملاحظات وتوصيات فرق تفتيش الدفاع المدني وعدم وجود او فشل او قصور إجراءات السلامة ومكافحة الحرائق ويقف وراء ذلك العديد من الدوافع والأسباب ومنها القصور والتقصير او الفساد والتذرع وأحيانا عدم كفاية التخصيصات المالية وغيرها من الأعذار ، علما إن قانون الدفاع المدني سابق الذكر حدد عقوبات لمن يخالف القانون والتعليمات والقرارات الصادرة بموجبه بموجب المادتين 20 و21 والتي تضمنت الحبس بين 6 أشهر إلى 5 سنوات فضلا عن الغرامات عند ثبوت التقصير في تلك الواجبات ، ويقتضي الواجب الوطني من الجميع الإسهام مع مديرية الدفاع المدني ( اقلها بموجب نصوص القانون ) لتنفيذ ما عليهم من واجبات والتزامات وعدم رمي الكرة في ساحة محددة بالذات ، كما إن من الواجب التذكير بأهمية إسهام منظمات المجتمع المدني والأفراد للقيام بأعمال تطوعية في مجال الدفاع المدني بعد تلقيهم التدريب المطلوب ، والقانون أنصف مثل هذه المبادرات ووضع لها حوافز وامتيازات ، فالمادة المادة ـ 18 ـ نصت على منح من يطلب منه القيام بأعمال الدفاع المدني من القطاع الخاص أجرا عن المدة التي قضاها في عمله على أن لا يزيد مبلغ الأجر على ما يتقاضاه العاملين في الدفاع المدني من راتب ومخصصات عن المدة ذاتها ، و يعد أي من العاملين في الدفاع المدني والأجهزة الساندة والمتطوعين عند الوفاة جراء قيامه بأعمال الدفاع المدني شهيداً و يستحق الحقوق التقاعدية المقررة للشهيد وفقاً للقانون ، ومن واجب العرفان لابد من الإشادة بتضحيات رجال الدفاع المدني ووفي مقدمتهم الشهداء الأبرار ، كما نشيد الجهود الكبيرة التي بذلت و تبذل من قبل منتسبي الدفاع المدني في المجالات كافة ومن نتائجها التصدي والمعالجة للكثير من الحالات ، كما نشير إلى الأداء المتصاعد الذي تبذله قيادة هذا الجهاز المهم ، والتي أدت لتخفيض الحوادث لعام 2024 لأقل من عددها بنسبة 40% من العام السابق، وهو انخفاض حصل رغم موجات الحر الشديدة التي تمر بها بلد حيث أسهم في انخفاضها مجموعة من العوامل التي اتخذتها قيادة هذا الجهاز ، وأبرزها استنفار الجهود في تشديد وتكثيف الفعاليات في مجال الكشف ورصد ومعالجة الأخطاء والتجاوزات في كل القطاعات واتخاذ الإجراءات القانونية بحق المخالفات والمخالفين ، واستيراد عجلات إطفاء مطورة ذات كفاءة عالية وإدخالها للخدمة فورا ، واستحداث منظومات إطفاء مصغرة مزودة بمعدات إطفاء موقعية ذات كفاءة عالية يمكن إدخالها للأزقة والفروع والأماكن الضيقة التي يصعب دخولها من قبل العجلات الكبيرة ، فضلا عن تزويد العاملين بتجهيزات ومعدات كاملة لرجل الانطفاء لتقليل الخسائر وحماية أفراد الدفاع المدني من الإصابات ،
وبهدف تفعيل مهام الدفاع المدني نضع أمام الجهات المعنية بعض المقترحات التي ربما تؤدي لرفع وكفاءة الأداء ومنها :
. إدخال منظومات الإنقاذ والإجلاء والإطفاء الجوي للخدمة في مجال الدفاع المدني من خلال تخصيص طائرات مناسبة لتمكين العاملين في سرعة الوصول وكفاءة المعالجة وتضييق الأخطار .
. زيادة الفرص التدريبية والتطويرية للعاملين في الدفاع المدني بإيفادهم خارج العراق للاستفادة من التجارب والتقنيات الموجودة هناك ونقل ما يفيد بلدنا بهذا المجال .
. وضع التخصيصات المالية الكافية للمديرية وفروعها وللمحافظات وللوزارات والدوائر ضمن فقرة الدفاع المدني بما يوفر الإمكانية للإنفاق لسد الاحتياجات وتوفير المتطلبات وعدم التذرع البعض بالتخصيصات .
. تشجيع العمل الطوعي في مجال الدفاع المدني وفق ضوابط وشروط تضعها المديرية العامة وتحفيز الأفراد والمنظمات على القيام بأعمال تطوعية في هذا المجال لإسناد فرق الدفاع المدني .
. التأكيد من السلطات العليا على ضرورة ممارسة الجهات الرسمية وغير الرسمية بمهماتها في مجال الدفاع المدني وتوفير المتطلبات اللازمة لعملها بما يجعلها قادرة على القيام بما يلزم عند وقوع الحادث بشكل آني .
. دراسة جدوى وإمكانية إنشاء منظومات الإطفاء الموقعية ( فوهات الحريق من الخزانات ) في التجمعات والأسواق لمعالجة صعوبة وصول الفرق بشكل سريع حيث من الممكن تشغيلها من قبل متدربين معتمدين .
. الأخذ بنظر الاعتبار وضع ممرات للطوارئ عند إنشاء الشوارع والطرق والمدن الحديثة بما يسهل وصول فرق المعالجة والإنقاذ والإطفاء وغيرها .
. التنسيق مع الجهات المعنية العمل على تفعيل المادة 19 من القانون بإصدار نظاماً داخليا لنوط الدفاع المدني يحدد فيـــه نوع النوط وأوصافه وكيفية وأوقات منحه وحمله ليكون حافزا للعاملين والمتطوعين .
. تحديث منظومات مواجهة الحوادث والحرائق بما يواكب آخر التطورات العلمية العالمية وتوفيرها كما ونوعا إضافة لما تم تحديثه أخيرا لنكون مع التطور العالمي أولا بأول .
. تشجيع أساتذة الجامعات وطلبة الدراسات العليا في تنفيذ البحوث والرسائل والاطاريح في مواضيع الدفاع المدني على ان تتكفل المديرية وفروعها بتقديم الإسناد و المساعدات ثم الاستفادة من نتائجها قدر الإمكان .
. قيام وسائل الإعلام بمختلف أشكالها وارتباطها بتسليط الأضواء على أهمية الدفاع المدني ودور المجتمع من مؤسسات وأفراد في التعاون لتقليل الأخطار والأضرار لأدنى المستويات .